10 أكتوبر 2023 تحميل ملف pdf

د. ثابت الأحمدي

لم تتوقف مسيرةُ النضال اليمني يومًا واحدًا أبدًا منذ وصل الكاهن السفاح يحيى حسين الرسي إلى اليمن فارًا من عدالة الدولة العباسيّة مع بعض أتباعه الفرس من الطبريين والديالمة، مما كان يُعرف حينها بـ "عراق العجم"، واستطاع بخبثه الشيطاني أن يقنع بعض القبائل إلى صفه، باعتباره ــ كما يدعي ــ حفيد رسول الله، ومن آل البيت، ومظلوم من آل العباس.

 

وقد تعددت أوجه النضال اليمني وأنماطه، ما بين مواجهاتٍ قتالية مباشرة، كما فعل الملك علي بن الفضل الحميري، أو ثقافية كما فعل الهمداني، أو فكرية كما فعلت المطرفية، أو دينية كما فعل نشوان بن سعيد الحميري، أو سياسيّة كما فعل كلٌّ من: المطاع والزبيري ونعمان وبقية الأحرار في القرن العشرين، أو عسكرية كما فعل رجالات تنظيم الضباط الأحرار، وإلى جانبهم: السلال وجزيلان والعواضي ورفاقهم.. إلخ.

 

ألف سنة ونيف وسيف الإمامة مصلت للهجوم، وألف سنة ونيف وسيفُ اليمنيين مُشرعٌ للدفاع عن أنفسهم وعن وجودهم. ما بين كل معركةٍ ومعركةٍ معركة أخرى، وما بين كل حربٍ وحربٍ حرب ثالثة، وهذا ما يجعلنا نقرر ــ وفقا للمعطياتِ التاريخيّة ــ أن الثقافة اليمنية مقاومة وممانعة وعصيّة على الذوبان، ثقافة تنتمي إلى حضارة تاريخية أصيلة، لا تزال بعض قوانينها القديمة عادات وأعرافًا اجتماعية إلى اليوم، فيما تعاليم الإمامة وموروثها مرفوض البتة.

 

ونتوقف هنا عند عالم كبير، وفقيه مجدد، وقاضٍ مصلح، هو الإمام محمد بن علي الشوكاني 1173ــ 1250هـ، الذي لم يكن فقيهًا كلاسيكيا بما توحي به كلمة "فقيه" فحسب؛ بل كان صاحبَ نظرٍ عميقٍ في الفكرِ والتاريخِ والسياسة أيضًا؛ حيث مثل محطة ثقافيّة وفكريّة وإصلاحيّة لا تزالُ ممتدة إلى اليوم بما تحمل من قيمة علمية أصيلة، تتواءم وروح الدين الحنيف وتعاليمه السمحة، بعيدًا عن زيف الكهنوت الإمامي البغيض.

 

كانت مؤلفاتُه في أغلبها ــ والتي تزيد عن 120 مؤلفًا ــ ردًا على رُكامات الزيفِ الكهنوتي خلال مئاتِ السنين قبله، في تلك البيئة التي تفرّخ فيها هذا الفكر كثيرًا، داحضًا أباطيلها وكهنوتها بأدواته العلمية الراسخة، وقد فاقَ فقهاء الكيان الإمامي علما وفقهًا وثقافة، فكان موضع احترام وتقدير الخاصة والعامة، ولهذا تولى منصب "قاضي القضاة "وزير العدل" وهو في سن السادسة والثلاثين لأول مرة، لثلاثة أئمة مُتتالِين: المنصور علي بن المهدي عباس، والمتوكل أحمد بن علي، والإمام المهدي عبدالله بن أحمد، لمدة 41 سنة. وخلال هذه المدة أعاد للقضاء اعتباره، وأعاد للعلم اعتباره، وأعاد للكلمة اعتبارها، على الرغم من معارضة فقهاء وكهنة الإمامة الهادوية المتعصبين لذلك.

 

وقد يقول قائل هنا أن الأئمة هنا وخلال هذه الفترة كان لهم الفضل في تنصيبه القضاء ورعايتهم له؟ والحقيقة أن هؤلاء الأئمة كانوا في حاجة للإمام الشوكاني أكثر من حاجة الإمام الشوكاني لهم؛ حيث كانت البلاد تشهد تدهورا كبيرًا على الصعيد السياسي، متمثلا في الغزوات الخارجية على اليمن من قبل جيوش محمد علي باشا من مصر، ومن قبل دعاة الوهابية، وكانت الانتفاضات والثورات الداخلية على أشدها، رفضًا للأئمة جراء الجور والظلم الذي تشهده الرعية، فعمل الإمام الشوكاني على تعيين قضاة مشهود لهم بالنزاهة والعدالة، لتخفيف الظلم الجائر، فشهدت البلاد بعض الهدوء في عهده؛ كون الرجل كان محل ثقة الناس واحترامهم، ولذا فقد بدأت من بعد وفاته فترة جديدة سماها المؤرخ الدكتور حسين العمري "فترة الفوضى" وخصص لها كتابا خاصا بذلك.

 

وعودة إلى أشهرِ مؤلفاته التي كانت ردًا مباشرًا على ما ساد من معارفَ فقهيةٍ وثقافيّةٍ في وعيِ الناس آنذاك، من نتاجِ فقهاء الإمامة وأئمتها الذين سَوّقوا للناسِ ثقافة مغلوطة وفكرًا مزيفا، توارثوه عن أسلافهم، فانبرى الإمامُ الشوكاني مفندا أباطيلَ وخرافات هذا الكيان، كالتالي:

ــ ألّفَ موسوعته الفقهية "السّيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار" ردًا على كتاب "متن الأزهار في فقه الأئمة الأطهار" لأحمد بن يحيى المرتضى، والكتاب الأخير يعتبره الأئمة منذ القرن الثامن الهجري وحتى اليوم المرجعية الدستورية لهم، فألف الإمام الشوكاني موسوعته الفقهية المذكورة مُفندًا دعاوى ومسائل المرتضى التي ناقشها ودحضها بالأدلة العقليّة والنقليّة، إلى جانب مسائل أخرى؛ الأمر الذي جعل فقيها جاروديا متعصبا كابن حريوة السماوي يفقد صوابه، محاولا الرد على الإمام الشوكاني في كتابه "الغطمطم الزخار المطهر لحدائق الأزهار من آثار السيل الجرار" ويقصد بحدائق الأزهار هنا كتاب المرتضى، من آثار "السيل الجرار"، كتاب الشوكاني، وقد ملأ كتابه المذكور بأقذع الألفاظ التي لا تليقُ بإنسان، ناهيك عن شخص يدعي العلم والفضيلة والفقه، وجميعها تنالُ من الإمام الشوكاني..!

 

ولم يقتنع ابن حريوة السماوي بذلك، بل هجا الشوكاني بقصيدة شعرية خاصة، كما فعل الشاعر "الحسن بن علي بن جابر الهَبَل" مع الإمام المقبلي من قبل.

 

وحين كان كتاب "الكشاف" للزمخشري في التفسير هو السّائد في عهده، والمعتمد لدى الأئمة فقد ألف الإمام الشوكاني موسوعته العلمية في التفسير المسماة "فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير" وتعمد الإمام الشوكاني أن يتبع فيه نهج الزمخشري الذي ركز فيه على اللغة من نحو وصرف وبيان، ولكن مصححًا بعض المفاهيم التي تتفقُ مع رأي الجمهور، والتي شذّ فيها الزمخشري، ذو الفكر المعتزليّ. فحلّ كتاب فتح القدير محل كتاب الزمخشري بعد ذلك. علما أن للمقبلي أيضا كتاب بعنوان "الإتحاف في الرد على الكشاف".

 

وفيما يتعلقُ بعلم أصول الفقه كان الكتاب السائد حتى عهد الشوكاني في الأصول هو الكتاب المعروف بـ "كافل الطبري" للقاضي علي بن صلاح الطبري، وهو في أساسه شرح لمتن محمد بن يحيى بهران. وكلاهما فقيهان جاروديان متعصبان. فألف الإمام الشوكاني كتابه المعروف: "إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول". ومن يومها ساد هذا الكتاب وتسيّد على ما عداه من كتب الأصول.  

 

من ناحية ثانية أيضا، وخلال تاريخ الأئمة من قبله، وحتى تلك الفترة تعمد الأئمة وفقهاؤهم أن يقتصروا في تدويناتهم التاريخية على تاريخ أئمتهم فقط دون غيرهم من اليمنيين، فحيث فتحت أي كتاب من كتبهم لا تكاد تجد إلا الفقيه الفلاني من آل البيت والإمام الفلاني من آل الرسي، وهكذا. فألف الإمامُ الشوكاني موسوعته التاريخية في علم التراجم: "البدر الطالع بمحاسن مَن بعد القرن السابع". وترجم فيها للعلماء والفقهاء من مختلف الطبقات والفئات، من قحطانية وعدنانية، غير متعصب لفئة دون أخرى، كما يفعل الأئمة وفقهاؤهم، بدونِ الإشارة إلى سياسته هذه، ولسان حاله: هذا هو اليمن الكبير، وليس من يسمون أنفسهم آل البيت فقط.

 

وحين كان كهنة الإمامة لا يأخذون من الأحاديث النبوية إلا ما وافقَ هواهم فقط مما يسمونها أحاديث آل البيت، وأغلبها ــ إن لم تكن كلها ــ مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألّفَ الإمامُ الشوكاني موسوعته الحديثية "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة". حيث فنّد دعاواهم وردّ ما يسمونها أحاديث تمجدهم وتُعلي من شأنهم.

 

وحين بالغ الأئمة وفقهاؤهم في تقديس قبور وأضرحة أسلافهم وجعلوا منها مزارات، كما جعلوا لها قبابا وعتبات يكادون يقدسونها، ألّفَ " شرح الصدور بتحريم رفع القبور".

 

وحين شاع سب الصحابة لدى غلاة الهادوية المتطرفة دافع الإمام الشوكاني عن صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاتهم هؤلاء الغلاة الإمامَ الشوكاني بالنصب والعداء لما يسمونه آل البيت، فتعمدوا سؤاله هذا السؤال: ما حكم من سبّ الصحابة؟ بقصد الإيقاع به والكيد له، فرد عليهم بكتاب: "إرشاد الغبي في الذب عن أصحاب النبي"، فتأكد لهم أنه لم عد منهم، فألف أحدهم بعد ذلك " إخراج الخبي في الرد على إرشاد الغبي". أي أنهم قد عرفوا ما بخبايا نفسه من توجهٍ نحوهم..!

 

هذا هو الإمام الشوكاني شخصية علمية تجديدية وسياسية، مناوئة للكهانة والزيف المتسربل زُورًا بالدين. شكلت معارفه ونتاجاته ثقافة جديدة للجيل الذي تلاه وإلى اليوم، وقد كان الناس قبله غارقين في وحل ثقافة الكهانة الإمامية الزائفة بتعصبها المقيت. فهل "سيتشوكن" فقهاؤنا اليوم، متبعين نهجه وموقفه؟! "اللهم "شَوْكنْ" فقهاءنا..

 

الهاشتاج
رابط الفيس بوك

حميع الحقوق محفوظة ل مركز المستقبل اليمني للدراسات الاستراتيجية ---- برمجة وتصميم ALRAJIHI