د. صادق القاضي.
مدخل:
قبل عصر العلم، كانت المجتمعات البشرية تنظر إلى المنجزات البشرية الكبرى، كاكتشاف النار والمعادن، والزراعة، وصناعة الأسلحة والثياب، وابتكار المهن والصناعات المختلفة.. كهبات إلهية، أو منجزات ثقافية خارقة، قام بها أبطال أسطوريون على مشارف البدايات الغابرة للتاريخ. وكانت اللغة وما يتعلق بها من الكتابة وأدواتها والأبجدية وتنوع اللغات.. إحدى أهم الأشياء التي وقف إزاءها الإنسان القديم منبهراً مندهشاً متسائلاً، ذاهباً كل مذهب في تأويل منشأها، وتفسير ظواهرها ومظاهرها، فكان لكل ثقافة مهمة سردية تفسيرية أو أكثر، تلتقي أو تفترق مع سرديات الثقافات الأخرى.. حسب طبيعة العلاقات التاريخية بين الأمم والشعوب.
السردية/ــيـات العربية للغة والكتابة:
فيما يتعلق بالثقافة العربية، لم يتبنَّ علماء الإسلام عن تاريخ اللغة والكتابة تفصيلاً دينياً معيناً أو سردية محددة تمثل الدين بالضرورة، وهذا ما أتاح للتصورات الميثولوجية عن اللغة والكتابة في الثقافة العربية أن تتبلور وتنمو بشكل غير عادي من حيث ثراء التفاصيل والأبعاد والخيال ما لا يمكن أن نجده في ثقافة أخرى. بيدَ أن التراث العربي لم يتضمن سردية واحدة كاملة أو محددة للغة أو الكتابة، بقدر ما تضمن سيلاً جارفاً من الجزئيات والتفصيلات المتجاذبة والمتنافرة، كنتاج طبيعي لاحتكاك وتأثر الثقافة العربية بعد الاسلام، بعدد كبير من لغات وثقافات الأمم والشعوب التي صارت سردياتها جزءاً من الثقافة العربية، وعناصر أصيلة في تشكيل طبيعة رؤيتها للكون والحياة والإنسان.
ومع ذلك يمكن بناء سردية عربية أو أكثر، للغة والكتابة، وإن كان الأمر أشبه بمحاولة إعادة تشكيل تمثال خزفي، من خلال حطام عدد من التماثيل المتناثرة إلى عدد كبير من القطع، تنطوي هذه العملية المعقدة أيضاً على تفكيك وإعادة تركيب بعض البُنى والحيثيات الجاهزة جزئياً، وقد تخلقت ملامح القصة هنا من أشتات عناصر متشظية في عدد كبير من مصادر التراث، واعتمدت في العموميات والتفاصيل، على الأكثر توارداً في المصادر التاريخية واللغوية والدينية التي تُعد أكثر قيمة اعتبارية من غيرها.
قد نلحظ تناقضاً، ونشعر بمفارقة، في ثنايا السرديتين العربيتين التاليتين، سردية اللغة، وسردية الكتابة، ولكن التناقضات والمفارقات هي بالذات روح السرد، وهي ما يميز الميثيولوجيا عن الفلسفة والعلم والتاريخ، القضية أكاديمية أساساً، ومع ذلك لديها جانبها الجمالي الخيالي المهم في السياقات الأدبية والثقافية، والقرائية المشوقة بشكل عام.
أ - ســرديــة اللغة:
لغة الأزل:
في عهد غابر ملابس للأزل، قبل أن يقرر الرب خلق هذه الأرض التي سيمارس عليها البشر ثرثراتهم بلغات لا حصر لها، كانت الكائنات والأرواح السماوية تتحدث بلغة أو أكثر من هذه اللغات التي ستُنسب لاحقاً إلى جنس بشري ما زال سلفه الأول مجرد فكرة في ذهن الخالق، في تلك الحقبة الموغلة في القدم كان بعض الملائكة. كحملة العرش. يتحدثون بـ"الفارسية الدرية"، وكان جبريل يتحدث اللغة "العربية"، فيما كانت أغلب الملائكة والكائنات والأرواح العلوية الأخرى تتحدث اللغة "السريانية". هذه اللغة الأكثر حظوة في تاريخ الكون([1]).
اللغة والإنسان:
بعد خلق الأرض، ثُمّ خلق كل ما عليها من كائنات ومخلوقات. بدأ جنسٌ حافٍ عارٍ أعزل منتصب القامة يدب على الأرض، بدا للوهلة الأولى أنه سيكون فريسة سهلة حتى لصغار الضواري، لكن الله كان قد اصطفاه، فوهبه في الجنة جمجمة منتفخة ولساناً طويلاً، وهي هبة بدت لا قيمة لها على الأرض مقارنة بالأنياب والمخالب والقرون والحوافر والأجنحة.. التي وهبها الله لبقية الحيوانات، فاللغة ليست سلاحاً فعالاً، ولا وسيلة مناسبة للهجوم أو الفرار أو الدفاع عن النفس، ومن الواضح أنها لا توفر ضمانة من أي نوع للطعام والمأوى والاحتماء من تقلبات أحوال الطبيعة.. إنها بالأحرى وسيلة ضوضائية لإهدار الوقت. لكن لله في خلقه شئون، وهكذا تبين فيما بعد أنها لم تجعل البشر جنساً متفوقاً فحسب على الحيوانات الأخرى التي صارت بهائم عجماء خلقت من أجله، بل مكنته من أن يهيمن ويتحكم بالطبيعة على الأرض نيابة عن الخالق وبتسخير منه.
لسان آدم:
ربما قبل أن يجف طين شفتيه تماماً. بدأ أبونا "آدم" يحرك لسانه محاولاً الكلام. لم يكن هذا السلف العجول([2]) ملزَماً بتعلم الكلام على مراحل، أو التحدث بلغة معينة، فقد أُلهم الكلام دفعةً واحدةً، كما أُلهم إمكانية التحدث بأي لغة من لغات سلالته المستقبلية، لقد "كان من معجزاته تكلمه بجميع اللغات المختلفة التي سيتكلم بها أولاده إلى يوم القيامة "([3])، لكن آدم، ومن كل هذه اللغات التي كان يتقنها مبدئياً، لم يكن بالتأكيد ليتكلم بأكثر من لغة واحدة، خاصة على الأرض. مع أسرته الصغيرة التي لا تخلو من الحسد وبعض المشاحنات.
لسرٍ ما تكلم "آدم" باللغة "السريانية"([4]) ، وبها تكلمت المرأة الأولى زوجته "حواء" بمجرد تخلقها عن ضلعه الأعوج، وربما كانت هي لغة ثالثهم الشيطان بغوايته التي تسببت بنفيهم جميعاً من الفردوس إلى هذه الأرض الوعرة العدائية التي ضمخت اللغة بالألم والأمل، والجروح والطموح، والقمع والدمع .. بهذه اللغة عبّر آدم عن عذاباته على الأرض، وبها كتب هذا "الشاعر الأول" "القصيدة البشرية" الأولى([5])، في رثاء ابنه القتيل "هابيل"، وأوصى آدم بنيه بحفظ هذه الفاتحة الشعرية، فظلت الأجيال البشرية تتوارثها حتى وصلت بعد تعدد اللغات إلى "يعرب بن قحطان" فترجمها([6]) إلى العربية شعراً، من بحر الوافر، مطلعها:
تَغَيَّرَتِ البِلاَدُ وَمَنْ عَلَيْهَا ... فَوَجْهُ الأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيْحُ
"الحزن"، إذن، هو أول أوتار الشعر، و"الرثاء" هو أقدم أغراضه، و"الوافر" أقدم بحوره العربية، و"السريانية" هي اللغة البشرية الأولى للشعر والإبداع، كما أنها اللغة الأولى للوحي، "فبها كلم الله "آدم" ونوحاً وإبراهيم"([7])!، واستمرت هي اللغة البشرية الوحيدة لحقبة طويلة من الزمن شهدت نهايتها ارتفاعاً مخيفاً في غرور البشر وطموحهم واعتدادهم بذكائهم وقدراتهم وحضارتهم.. إلى درجة أن "طوفان نوح"، بكل أهواله وكوارثه. لم يكن كافياً لكبح جماح "الطموح البشري"، وإقناع غروره المتزايد بالتواضع، إلا لفترة وجيزة، في عاصمة العالم بابل.!
بلبلة بابل.
كان العالم حينها هو "بابل"، إذ لم يكن هناك منطقة في الأرض مأهولة بالبشر غيرها، ومع أن ذكرى "الطوفان" لم تنقشع بعد من ذاكرة أهلها، فقد عادوا إلى وهمهم اللذيذ الخادع بقدراتهم الخارقة، وبشكل أكثر تمادياً ومبالغة عن ذي قبل، حتى أن بعضهم ظنَّ أن بإمكانه أن يكون إِلهاً، أو ما يشبه ذلك، بل قرر إنشاء تحصينات وأبراج تمكنه من الصمود في أي حرب مماثلة محتملة يشنها الله على البشر في هذه المدينة النمرودية الجامحة.
كان "النمرود"، أحد أحفاد النبي "نوح". هو صاحب هذه الفكرة الحمقاء وهذا المشروع الأخرق، وقد بلغ به جنون العظمة أن فكر جدياً بالصعود إلى السماء لمواجهة الله ومنازعته الألوهية والملك، وبدأ بالفعل في تنفيذ مشروعه الأرعن، واستخف بقومه الذين كانوا حينها كل البشر، فشرعوا يبنون "بنياناً أسفله الأرض وأعلاه السماء! .. قالوا: نتخذه حصناً يحرزنا من الطوفان([8]) ".!
تناسى الجنس البشري، في لحظة نشوة، ضعفه وتواضع قدراته، وبدأ في مناكفة السماء، شعب واحد، في وطن واحد، عبّر بلسانً واحدٍ، عن طموحات مفعمة بالنرجسية والجحود والتجاوزات.. فكان على الإله وضع حد لهذا التمادي والاندفاع الأعمى، كان عليه تحطيم مصدر قوة البشر ووحدتهم، وهي اللغة، حتى لا يجتمعوا مجدداً في وطن، أو يُجمعوا على رأي، أو يفكروا بطريقة واحدة، أو يساورهم شعور بالكمال، والتحدي مرة أخرى في مواجهة خالقهم.
وحدثت الكارثة.. حدثت بغتةً، في ذروة خدر النرجسية الحالمة، ودون إنذار أو مقدمات.. فكما تنقضّ صاعقة، أو يتجشأ بركان، انهار "برج بابل"، وتقوّض الصرح العملاق على رؤوس بُناته دفعة واحدة([9]).. وعندما أفاق البشر من هول المفاجأة التي عقدت ألسن الجميع، كان كل شيء قد انتهى.. حتى الشكوى والتعازي لم تعد مجدية، إذ لم يعد أحد يفهم ماذا يقول الآخر ولا ماذا يريد!
اكتشف البشر - بعد فوات الأوان- سوء تقديراتهم للأمور، لقد كانت نتائج الكارثة فادحة، فادحة بشكل لا يمكن استيعاب حجم تداعياته وأبعاده. لم يخسر البشر هيكلهم العملاق، ولا طموحهم الأسطوري فحسب، بل خسروا وحدتهم اللغوية: مصدر وحدتهم، ومكمن قوتهم، وعماد حياتهم وثقافتهم المشتركة. خسروها إلى الأبد!.
سقط النمرود، آخر حكام العالم، وملوك الأرض، وصعد حفيد آخر لنوح، اسمه على الأرجح "فالح" "قاسم" بالعربية، سُمي كذلك لأنه قسم الأرض بين البشر الذين صاروا شعوباً وقبائل، فقد وجد نفسه يحكم شظايا ما كان شعباً واحداً، فصار عدداً كبيراً من الشعوب، يتكلمون لغات مختلفة، ويفكرون بطرق مختلفة، فوزع بينهم العالم.
يومها. خرج "إبراهيم الخليل" من نار "النمرود" التي كان يتنعم فيها برداً وسلاماً، خرج وهو يتكلم بلغة جديدة مختلفة هي العبرية، فمضى عن بابل باتجاه كنعان على رأس شرذمة كُتب عليها الشتات في الأرض، فيما توجه "يعرب بن قحطان"، إلى الجزيرة على رأس هذا الشعب العنيد الذي نزل بلسانه "القرآن الكريم"، وهكذا تبددت شعوب العالم، دون أمل باجتماعها في مركز واحد مرة أخرى على هذا الكوكب. .
لغة البرزخ([10]) :
كانت بلبلة الألسن عقاباً إلهياً للبشر على تجاوزهم مقامهم المعلوم في الطموح والنكران، وهي عقاب دنيوي، سيسقط بمجرد مغادرة الحياة الدنيا، فعندما يتركنا الموتى يتركون لغاتهم و يعودون إلى لغتهم البشرية الأصلية، وهي اللغة "السريانية"، لغة البرزخ، سيُلهمون عفوياً فهمها والتكلم بها في حضرة ملائكة الاستجواب الأولي في القبور، أو في بطون السباع، أو في قماقم الرماد، أو في أي مكان آخر.
لغة القيامة:
عندما يأتي اليوم المعلوم، ستضع نفخة "إسرافيل" في الـ"صُور" نهاية مرعبة للكون وللكائنات البشرية التي أهدرت حقباً مديدة على الأرض في الثرثرة، دون أن تفعل سوى القليل من الخير، وعندما ينفخ النفخة الثانية ستهب هذه الكائنات "من الأجداث سراعا ًينسلون" سواسيةً "عراةً حفاةً عزلاً.. كما ولدوا، على قامة "آدم" وجسمه ولسانه "، التاريخ سيعيد نفسه يومها، لكن بشكل عكسي، ففي مقابل الرعب الذي بلبل ألسن البشر وفرق لغاتهم في بابل، سيواجه البشر مع نفخة الصور هولاً أكثر رعباً يجمع ألسنهم من جديد، على لغة واحدة، فلم يعد اجتماع البشر بلغة واحدة في عرصات القيامة، يثير نعرة الاستعلاء التي كان يثيرها في ظلال أبراج بابل، سيعود البشر في أرض المحشر إلى اللسان الأم التي كانوا يتحدثون بها جميعاً قبل تعدد اللغات، "السريانية" هي أيضاً لغة الحشر والقيامة.
لغة الآخرة:
بعد يوم الحساب. سيتفرق البشرعلى صعيد المحشر بين الجنة والجحيم، أولئك المحظوظون الذين سيعودون إلى "الفردوس المفقود" سيكون من نصيبهم أن يتحدثوا بالعربية، يضيف بعضهم أنهم سيتحدثون أيضاً بالفارسية الدرية، فيما يرى آخرون أن هذه الأخيرة هي لغة أهل الجحيم.!.
..
ب- ســــــرديــــــــــة الكتابة:
في البدء، وقبل كل شيء آخر، خلق الله "القلم"، ليكتب على لوح الأقدار مسار قصة الخلق والكون والحياة من نقطة مجهولة سابقة للأزل، إلى ما وراء الأبد، وبأدق التفاصيل، وفيما بعد، ولأسباب منها أن الأرض ستصبح مأهولة بالبشر، وهو جنس مراوغ من طبيعته الجحود والإنكار. خلق الله "قلم الملائكة"، ليضعوا لكل فرد من هذا الجنس المجادل مدونة تتضمن كل صغيرة وكبيرة قام به خلال حياته. لمواجهته بها يوم الحساب.
بعد أن خلق الله السموات والأرض قرر تسمية الأيام الستة التي خلقهما فيها بـ" أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت. "، ثم لما خلق الله آدم واصطفاه. أنزل عليه هذه الأسماء سورة مقدسة، فهي " أول كتاب أنزله الله من السماء " على البشر، قيل أيضاً أن هذه السورة أنزلت على "النبي هود"، فيما الترتيب الأخر "أ، ب، ت، ث.. " هو بدوره سورةٌ أخرى أنزلت على آدم أيضاً، وقيل على نبي آخر، أما لماذا سميت هذه الأحرف بأسمائها "ألف، باء، جيم، دال.. " فلأسرار ومغازٍ يدركها الراسخون في العلم، وفي الأثر: "تعلموا أباجاد وتفسيرها، ويل لعالم جهل تفسير أبي جاد".
الكتابة هبة إلهية:
كان الله قد ألهم "آدم" كتابة سورة "أبجد، هوز.. " بكل خطوط اللغات التي ستكتب بها ذريته المستقبلية. لكنه في ظروفه تلك لم يكن مضطرا للكلام أو الكتابة بأكثر من لغة واحدة، ومع ذلك، ولسرٍّ سيتكشف لاحقاً، كتب آدم لكل أمةٍ على حدة كتاباً بخطها ولغتها، كتبه على لوح من طين مشوي، فلم يكن الورق متاحاً بعد. "يوسف الصدّيق". بالمناسبة. هو "أول من اتخذ "الورق" القراطيس "، فعل آدم ذلك قبل موته بثلاثة قرون، ودفن تلك الألواح في الأرض، تحسباً ليوم بعيد ستتبلبل فيه الألسن وتتعدد اللغات، فلما حدث الأمر أُلهمت كل أمةٍ بشكلٍ ما اكتشاف كتابها القديم، وهكذا. فكل الأمم مدينةٌ لآدم بهذه التقنية الخارقة، التي تتجاوز عبقرية البشر المدينين بها للإلهام الإلهي.
الكتابة إنجاز ثقافي:
يبدو أن آدم اكتفى من الكتابة بكتابة ودفن تلك الألواح الطينية الموعودة بالاكتشاف، فلم يعلّم أبناءه المباشرين تقنية الكتابة، إذ أن سلالته لم يعرفوا الكتابة سوى في عهد إدريس "أخنوخ "، ليس الفارق الزمني كبيراً بين آدم وبين هذا الحفيد الذي قصر بعضهم دوره في الكتابة على اكتشاف الألواح التي دفنها جده، فيما نسب إليه كثيرون منجزات ثقافية كبرى منها كونه أول من خطّ بالقلم وخاط الثياب، وتكلم في علم الفلك.. ولأجل ذلك كله لُقّب بــ "هرمس الهرامسة، والمثلث بالنعمة، لأنه كان: نبياً، ملكاً، حكيماً ".
كانت اللغة البشرية حتى عهده هي "السريانية"، فمن الطبيعي أن الكتابة الأولى كانت هي السريانية "ولهذا كانت السريانية، ضاربةً في جميع اللغات، سريان الماء في العود، لأن حروف الهجاء، في كل كلمة، من كل لغة، قد فُسرت في السريانية، ووضعت لمعانيها الخاصة ".!
الأبجدية العربية .. وأبطال الثقافة:
بعد بلبلة بابل وتفرق اللغات، "أصاب الملك اليمني المؤسس "يعرب بن قحطان" كتاب العرب" اللوح الطيني الذي كتبه آدم بالعربية ودفنه لهذا الغرض، فكان هو أول من كتب بالخط العربي، هذه الأولوية تنسب أيضاً لـ"إسماعيل"، ولملك يمني آخر هو "حمير بن سبأ", ولـحرب بن أمية ولآخرين، لكن البطل الثقافي الأشهر في اختراع الكتابة العربية، هو "مرامر بن مرة"، وهو شخصية غامضة، قيل إنه من الأنبار، وقيل من بني مرة، وقيل من عرب طيء.. وفي كل حال تنسب إليه أولوية اختراع الخط العربي، وتضعه الروايات بجانب شخصين آخرين كانوا مثله مبتكرين ومن كُتّاب الوحي للنبي هود "عليه السلام". بدأ هو بوضع أشكال وصور الحروف، بينما قام زميلاه بتطوير الكتابة.
الأبجدية ميراث ملكي:
بروايات أخرى: الأبجدية العربية ابتكار ثقافي ملكي لستة ملوك، اخترعوا أشكال الحروف وسموها بأسمائهم: أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت، كان هؤلاء زعماء ممالك عربية بائدة: كان أبجد ملك مكة، "وكلمن" كان رئيس ملوك مدين، وهكذا، وقيل كان الستة من ملوك مدين، وقيل أشخاص عاديين من طسم الغابرة، والمهم أن هؤلاء الستة هم من وضع الخط العربي وسموا الحروف بأسمائهم، ثم وجدوا بعد ذلك حروفاً ليست من أسمائهم، فسموها الروادف.. "ثخذ، ضظغ "، أما الترتيب "أ ب ت ث .." فبجانب كونه سورة تنزلت على آدم، يقال إن أول من وضعه نفرٌ من أهل الأنبار من إياد القديمة، وعنهم أخذت العرب.
الفصل والوصل:
الفصل والوصل بين الحروف، إنجاز تقني آخر، ونقلة نوعية للكتابة العربية، يمكن تصّور أن العرب في البداية كانوا يكتبون الحروف والكلمات كلها متصلة ببعضها وغير متفرقة، فيقال أن قواعد "الفصل والوصل " وضعها لاحقاً بعض ولد اسماعيل، فـ "فرقوا الحروف وجعلوا الأشباه والنظائر"، وقيل غيرهم، لكن الأشهر هو أن أسلم بن سدرة "زميل مرامر" هو من وضع قواعد الفصل والوصل للحروف العربية.. فيما وضع ثالثهم عامر بن جدرة، قواعد الإعجام..!
للحروف أسرار:
كظاهرة غير عادية. للأبجدية جانبها الميتافيزيقي، وللأحرف أسرارها، فهي مظاهر لظواهر محتجبة، ورموز قوى خفية، ومفاتيح كنوز مطلسمة، وتنطوي على أسرار ربانية أو سحرية، أو فلكية، أو ذاتية.. كما أن لها أمزجة وطبائع وخصائص متنوعة، وتكتيكات عددية.. فيما وراء الطبيعة تؤثر وتتأثر بالطبيعة، و" أسرارها سارية في الأسماء، فهي سارية في الأكوان"، وإلى ذلك فالحروف فئات وأصناف.. حسب اعتبارات مختلفة، فهناك حروف نورانية خيرة، تجمعها العبارة: "نص حكيم له سر قاطع"، وما عداها حروف شريرة مظلمة، وحسب طبائعها "توزعت الحروف إلى حروف نارية وهوائية ومائية وترابية، حسب توزع العناصر" على الطبائع الأربع، وهكذا أجمع السحرة والمنجمون وبعض علماء الطبيعة، ورجال الدين، على أن للحروف وللأبجدية أسراراً وأبعاداً وقوى غيبية، واختلفوا في أساليب استنباطها والتعامل بها ومعها..!
تـعـليـقـات سيمائية/أنثروبولوجية:
- للمصدر والدافع القومي دور جوهري في صياغة أهمية اللغة، وموقعها في التاريخ الكوني والبشري، في الثقافات القومية، وقد يلحظ القارئ هنا مبالغة في أهمية اللغة السريانية، على حساب اللغة العربية، التي يفترض أن تكون هي لغة الكون، والأكثر حظوة بين اللغات في الثقافة العربية، وقد يُحل هذا الإشكال إذا عرفنا أن علماء السريان ظلوا لفترة طويلة بعد الاسلام هم النخبة المثقفة والعلماء الذين استقى منهم العرب كثيراً من التصورات، "ولما كانت السريانية هي لغة الثقافة والمثقفين، ولغة يهود العراق وأكثر أهل الكتاب في جزيرة العرب في ذلك العهد؛ فلا يستغرب إذن قول من قال إن السريانية هي أصل اللغات وأنها لسان آدم ولسان سام بن نوح ".
- في المقابل، حدث وإن بشكل خافت. منح العربية أهمية وأقدمية مطلقة، وبصرف النظر عن الخلاف التراثي حول أول من تكلم أو كتب بالعربية من البشر، هل هو آدم، أم نوح، وربما إسماعيل، أو هود، أو يعرب بن قحطان، أو جرهم.. هناك من يرى أن العربية ليس لها أول بشري، فهي لغة أهل السماء من الملائكة والكائنات العلوية، وجبريل الأمين هو أول من تحدث بها من الملائكة، فهي لسان سماوي ملائكي قديم، قبل أن تصبح لغة بشرية أرضية.
- وعن مكانتها وتاريخها مقارنةً باللغات الأخرى. هناك من يرى أن العربية هي أم اللغات البشرية جميعاً، واللسان البشرى الأول، لسان آدم: "إلا أنها حُرّفت ومُسِخَت بتطاول الزمن عليها، فظهرت منها السريانية، ثم سائر اللغات"، فالسريانية التي تتبجح كثير من الروايات بأقدميتها وحظوتها ليست سوى عربية محرفة، وكذلك بقية اللغات.!.
- كون اللغة الفارسية الدرية أيضا لغة مهمة ذات أبعاد ميتافيزيقية، في التراث العربي الإسلامي يمكن فهمه من خلال الصراع الثقافي العربي الفارسي بعد الإسلام، الذي تبلور جانبه المتطرف في "الشعوبية "، فكثير من كبار علماء اللغة والدين .. هم عرب من أصول فارسية، وهم من منحها هذه المكانة الرفيعة، فيما جعلها بعض العرب للدوافع القومية نفسها لغة أهل الجحيم.
-هناك على الهوامش من جعل اللغة العبرية هي لغة آدم ولغة البشرية كلها قبل حدوث البلبلة، وعن "يعقوب الرهاوي ": "إن اللغة لم تزل عبرية إلى أن تبلبلت الألسن ببابل"، ولا يحتاج المنبع أو الدافع لتوضيح.!
- يبدو أيضاً أن العرب في زمن البعثة كانوا ينظرون بإكبار لبعض اللغات الأخرى، كالسريانية والعبرية، باعتبارها لغات السماء والوحي، وكان من جملة اعتراضهم على الرسول(ص) أنه لو كان رسولاً لأوحي إليه بلسان أعجمي، بدلاً من لسان القرآن العربي، أو طلبوا منه وحياً أعجمياً، وهو ما ناقشه بعض المفسرين للآية (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ..)، والآية ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ )انظر: على الأقل: التحرير والتنوير، لابن عاشور، ج12، ص219.
العرب وأسطورة بلبلة بابل.
- بلبلة الألسن في بابل، من السرديات البشرية الكبرى والعريقة، وردت في التراث البابلي، وعنه أخذها اليهود، فوردت في "العهد القديم "، ومن اليهود أخذها العرب، ولأنها لم ترد في "القرآن الكريم"، لم يتعامل علماء الإسلام مع تفاصيلها بشكل حدّي شمولي، فرفض بعضهم بعض التفاصيل، وتبنوها إجمالا بشكل غير متطرف، وفسروا بها منشأ تعدد اللغات.
-حافظ العرب، كشعوب أخرى، على العناصر الجوهرية لقصة البلبلة، غير أنهم تصرفوا إلى حدٍّ ما فيما عدا ذلك، كالأبعاد الزمكانية لها، حيث رأى بعضهم أن البلبلة لم تحدث في بابل ولا في زمن النمرود، بل على سفينة نوح أو بعد الطوفان مباشرة، ففي رواية عن ابن عباس قال: "كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلا معهم أهلوهم .. فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة إحداها العربي، وكان بعضهم لا يفقه كلام بعض، فكان نوح عليه السلام يعبر عنهم "يترجم بينهم"، ومع أن هذه الرواية لا تذكر سببا مباشرا للبلبلة، إلا أن ربط حدثها بالطوفان، يتضمن السبب الجوهري المطرد، وهو طموح البشر وجحودهم، وبالتالي عقاب السماء، ما ترتب عنه انتقال البشر من طور الوحدة إلى طور الشتات اللغوي.
- ومع أن للأسطورة منطقها الخاص للزمان والمكان والتاريخ، إلا أن بعض رواة العرب بالغ في تدقيق التحديد الزمني لبلبلة الألسن، في مقابل الزمن التاريخي، ويرى أن ذلك حدث قرابة منتصف القرن السابع للطوفان، الذي يوافق الألف الرابع قبل الهجرة..!!
- كما تشدد بعضهم في التدقيق العددي للغات، فيقال أن اللغات التي ألهمها آدم "700,000 " لغة، وفي روايات أن البلبلة أنتجت "74 أو 75 أو 80"لغة، ثم يحدد بعضهم بدقة نصيب الشعوب المتحدرة عن أبناء نوح منها، ففي "ولد سام تسعةَ عشرَ لساناً، وفي ولد حام سبعة عشر لساناً، وفي ولد يافث ستة وثلاثين لساناً، وتشعبت بعد ذلك اللغات..".!
أهم المصادر: