17 أكتوبر 2023 تحميل ملف pdf

*مصطفى ناجي 

‏باحث ومترجم يمني مقيم في فرنسا. 


‏يعد اطروحة الدكتوراة في علم الاجتماع السياسي.

 

يعج التاريخ السياسي لليمن الحديث - كنتيجة مباشرة لغياب آليات الحكم الرشيد والديمقراطية كإطار ناظم للعملية السياسية - بالأحداث العنيفة منذ تأسيس الدولة الحديثة في شطري اليمن وصولاً إلى إعادة الوحدة اليمنية وما تلاها من عقود لم تخلُ من أحداث دموية متنوعة ومتعددة. تشكّل مع الزمن منحنى عنف فيه اغتيالات سياسية، حروب شطرية، حروب أهلية، حركات تمرد، انتفاضات شعبية، ممارسات قمع وتعسف واستخدام مفرط للقوة من طرف السلطة... 

 

لذا كانت انعكاسات هذا العنف عديدة وتداعياته كبيرة سواء على السلم الاجتماعي أو على مسار بناء مؤسسات وقدرات الدولة والوفاء بالتزامات الخدمات العامة تجاه المواطنين. لكن الثابت هو حدوث انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان وتأثيل للعنف السياسي في كل حادثة حتى أنه يخال للدارس أن العنف هو المسار التاريخي غير المنقطع لليمن الحديث. 

 

من السلمية إلى ملشَنة الحقل السياسي

 

يمكننا القول إن هناك تراكم كبير من العنف واتساع لرقعته برز بكل وضوح في العام 2011 من خلال ثورة شعبية تقع ضمن تعريفات العنف السياسي لما صاحبها من اعتراك على الصعيد السياسي، أو مواجهات بين فصائل عسكرية مسلحة، أو النتيجة المباشرة للرد الأمني والعسكري على الانتفاضة الشعبية. إذ سجل العام الأول منذ الانتفاضة في فبراير 2011 مقتل حوالي 2000 شخص بينهم 120 طفلاً بحسب تصريحات حكومية. 

 

على الرغم من المحاولات السياسية المتمثلة بالمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية الأممية لاحتواء المشهد من خلال الشروع في عملية انتقالية سياسية سرعان ما انتكست إلى عنف سياسي عالي المستوى أي حرب واسعة النطاق بدءًا من النصف الثاني من العام 2014 دشنها الحوثيون من خلال هجومهم على مؤسسات الدولة والاستيلاء على المقرات الحكومية والاستيلاء على العاصمة. 

 

وموجة العنف المكثفة التي ترافقت مع انخراط دول التحالف في الحرب في اليمن منذ مارس 2015م وتوظيف آلة نارية فائقة، صاحبهتا خسائر مادية وروحية جانبية كبيرة ولا يمكن تجاهلها. 

 

وقبل الخوض في تفاصيل هذه الورقة ينبغي علينا توضيح سبب اختيار الموضوع وسوق الحجج الملائمة للمتلقي.

 

إن السياق الذي تشهده اليمن في الوقت الراهن هو صراع واحتراب، بالتالي، نحن أمام حالة عنف معمّم، هذا من ناحية. ومن الناحية الأخرى، كان اليمن بصدد نقاش قضاياه الرئيسة والمزمنة التي حالت دون حدوث تنمية وتحقيق شروط حياة كريمة للإنسان اليمني. وقد حُدِّدت جملة معالجات تتمثل بحوالي 1800 قرار وتوصية لمعالجات اختلالات الماضي على الصعيد البنيوي ومعالجة سوء توزيع الثروة والسلطة.

 

وأيضا لفت النظر إلى مشكلات جوهرية كالعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية والمشاركة الواسعة وتمكين الشباب والمرأة بالإضافة إلى قضايا التنمية المستدامة. لكن الحركة الحوثية قلبت الطاولة على الجميع وقوضت كل الجهود السلمية لمعالجة مشاكل اليمن وذهبت في فرض خياراتها بالقوة بعد أن فشلت من خلال الحوار. ولهذا فإن الحركة الحوثية تستحوذ على مساحة كبيرة في الحديث عن العنف الدائرة في اليمن كمتسبب أول. وهذا دافع اختيارنا لهذا العنوان ولموضوع الورقة. 

 

إلى جانب أننا نخوص في مصطلح في علم السياسة المعاصر - هو الإرهاب - ما يزال موضع لبس ونقاش كبيرين ولم تتحدد بعد أبعاد مفهوم الإرهاب لتعدد التعاريف والجهات التي تتبنى هذه التعاريف. 

 

تفترض هذه الورقة أن الممارسات العنيفة للحركة الحوثية تتطابق مع ممارسات حركات إرهابية إسلامية كالقاعدة أو داعش إلا أن المجتمع الدولي توافق على وصم الحركات الإسلامية السنية بالإرهاب ولم يتلفت الى أفعال الحركة الحوثية العنيفة ذات المآرب السياسية من ذات المنظور، ربما لأنها مصنفة شيعية بالتالي انتفاء وسم الإرهاب. 

 

 ستتبع هذه الورقة منهجًا تحليلياً لمسار الحركة الحوثية العنيف وتفحصها بين مفهومي العنف السياسي والإرهاب. 

 

العنف السياسي

 

نجد أن التعاريف النظرية للعنف السياسي تجمع على أنه "استخدام القوة المادية أو التهديد بها وإلحاق الأذى والضرر بالآخرين لأهداف سياسية". والعنف هو القسوة والشدة والجور مادياً ومعنوياً. الحكومة بالتعريف هي المحتكرة للقوة والموظِّفة لها في إطار نسبي قانونياً لما تقتضي المصالح العامة وحفظ النظام. إلا أن الفاصل بين احتكار العنف واستخدامه للمصلحة العامة أو استخدامه إفراطاً من خلال الاعتداء على حقوق وحريات الآخرين هو المشروعية لهذا الاستخدام والهدف منه وحجمه. 

 

تشكل حالة الحرب في اليمن عنفاً يمزج بين كل أشكال العنف السياسي. ذلك لأنه وليد تراكم طويل من العنف السياسي الذي كانت تمارسه الدولة تجاه المواطنين في عهد صالح بأشكال عديدة، متكئة على ذلك بأدوات السلطة القمعية - ونقصد الأدوات الأمنية والعسكرية وأجهزة المخابرات - وتوظيف التناقضات الاجتماعية لتفجير بؤر صراع تحسبها تحت السيطرة. ثم الرد الشعبي على السلطة التي لم يكن الشعب راضياً عنها من خلال عمل ثوري هو أيضاً شكل من أشكال العنف السياسي الشعبي، وصولاً إلى العام 2014 حيث دشن الحوثيون حرباً مفتوحة جلبت تدخلاً عسكرياً اقليمياً أسهم كثيرا في رفع منسوب العنف بالنظر إلى الآلة النارية المستخدمة.

 

وعلى الرغم من دخول البلاد عامة في مرحلة كبح التصعيد العسكري؛ إلا أن العنف اليومي يمارس بأشكال متنوعة. إذ تغيرت ملامح خطوط المواجهة، وأصبح العنف مكرس تجاه فعاليات الرفض المدني لسياسيات الافقار أو عنف منهجي موجه نحو مكونات المجتمع المدين؛ نقابات، جمعيات، أطر مهنية...   

 

تصاعد نوعي للعنف..

 

خلال مراحل العنف السياسي التي شهدتها اليمن الموحد فإن هذه الموجة الأخيرة منذ 2014 من العنف هي الأشد والأكثر دموية وتدميرية. وتتميز هذه الحرب أولاً؛ بتنوع الفواعل فيها بين المحليين والإقليميين.

 

ثانياً؛ تداخل العوامل والدوافع وراء هذه الحرب وأبرز هذه العوامل هو العامل الديني. ثالثاً؛ استحضار الذاكرة الجمعية الثأرية. رابعاً وأخيراً، الكلفة الإنسانية الباهظة التي تتمثل بإيصال البلاد إلى جيوب مجاعة مريعة، وانهيار النظام الصحي والاقتصادي، وانتشار العنف في مساحات كبيرة بما فيها العنف العائلي، وخلخلة لوحدة المجتمع الأولى، الأسرة، وتوجيه العنف نحو مدنيين عزّل. 

 

إنها موجة عنف سياسي وظف فيها المتحاربون بصفة عامة كل المتناقضات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لتقويض الدولة والاستيلاء على المدن والموارد الاقتصادية والمقدرات العسكرية وافتتاح مرحلة احتراب مفتوحة وشاملة وتوظيف العنف في أقصى درجاته سيما العنف الطائفي في ممارسات خطابية وعملية تشق جدار المجتمع على نحو لا يلتئم معه.

 

على نحو خاص؛ مارست الجماعة الحوثية بدورها عنفاً أولاً؛ ضد فئات اجتماعية ودينية معينة (اليهود، السلفيين في صعدة، الإصلاحيين، البهائيين) متكئة على أدوات السلطة القمعية التي استولت عليها؛ أي أجهزة الأمن والجيش والمخابرات المتوفرة، أو التي انتجتها ونقصد ما بات يعرف بـجهاز الأمن الوقائي الخاص بالحركة الحوثية. 

 

ثانياً، قوضت المجال العام وعملت على تنميطه بلون واحد وخطاب واحد، ورؤية مذهبية واحدة. كما انتهكت المشترك الجمعي المعنوي لليمنيين من خلال المساس بالجمهورية كقيمة سياسية ومضامين اجتماعية، تعديل المناهج الدراسية ومحاولة النفاذ إلى عقول الأجيال القادمة. (نستحضر في هذه السطور رد العفل العنيف عملياً ورمزياً لسلطة الحوثيين ضد احتفاء اليمنيين بذكرى ثورة 26 سبتمبر في صنعاء ومدن يمنية أخرى).    

 

وإذن؛ فالنصيب النوعي والكمي للعنف الحوثي ضمن مشهد العنف الكلي في اليمن يستدعي تشريحه. 

 

ما غاية هذا العنف؟ 

 

كانت الحوثية إطاراً حركياً محدود الانتشار في بعض مديريات صعدة. لكن الحرب جعلتها أكثر انتشاراً وأوصلتها إلى الاستيلاء على مقدرات البلاد وعلى العاصمة اليمنية. قد لا تكون الحركة، في الصورة العامة، هي التي أطلقت شرارة العنف المادي بشكل واسع وجعلها قابلة للتصنيف بأنها ضمن حلقات العنف التي تمارسها السلطة على المجتمع في عهد صالح. 

 

وهذا القول هنا هو قول مجرد بعيد عن التكييف القانوني لتلك الحروب التي شهدتها صعدة في العشرية الأولى من هذا القرن لأننا لن نتجاهل القراءة الدولتية لهذه الحروب باعتبارها حروب لفرض هيبة الدولة ونفوذها على كامل التراب اليمني وفرض اليمن الجمهوري ومنع الاقتطاع منه تحت أي مسمى. إلا أن الحركة، وفقا للافتراض أعلاه، استجابت للعنف بالعنف وغدا العنف لديها هو الغاية.

 

إلى جانب ذلك، يتضح من الخطاب العام والأداء الظاهر للحوثيين أنه لا غاية لهذا العنف سوى الاستيلاء على السلطة وتكريس نظام حكم غير متفق عليه يقوم على أسس مذهبية. ومنذ أن بلغ الحوثيون في شراكتهم مع صالح إلى الحكم؛ علقوا العمل بالدستور، وأزاحوا المؤسسات القائمة وانشأوا مؤسسات موازية أو بديلة. ثم افترق الحلف بينهم وبين صالح، وأجهزوا عليها نهاية 2017م، وبهذا سمحوا لأنفسهم بممارسة عنف سياسي واسع النطاق لايستند إلى أية مشروعية قانونية ولا لأي نص دستوري. 

 

يمكن النظر إلى العنف السياسي من خلال الأدوات المستخدمة أو نوع العنف (مادي أو معنوي) لكن النظرة الشاملة في دراسات العنف تنصب نحو الأثر المترتب. ونحن أمام عنف استخدم كل الوسائل المادية والمعنوية والتي سنأتي على تفصيلها في وقت لاحق ونتيجة هذا العنف؛ انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان كافة، الحقوق الاقتصادية (الاعتداء على الملكية الخاصة، فرض الاتاوات، الجمع بين السلطة والتجارة، تشكيل مؤسسات اقتصادية بديلة أو الاتجار بالسوق السوداء والاثراء غير المشروع) والاجتماعية (الحقوق المتصلة بالعمل، بالضمان الاجتماعي، بالمياه والصحة، بالتعليم ...) او الاقتصادية والاجتماعية في آن واحد كتغير آلية تحصيل الزكاة ومصارفها وفرض قانون تميزي هو قانون الخُمس. والحقوق السياسية (حق التنظيم والتظاهرات وتشكيل الأحزاب، الانتخاب...) وحرية التنقل وحرية الاتصال والتواصل طالما ونحن قد بلغنا الجيل الثالث من حقوق الانسان.. 

 

ديناميات العنف في الحركة الحوثية:

 

 

لفهم ديناميات العنف في الحركة الحوثية نفترض وضع إطارين: 

الأول؛ يتناول العنف الأصيل في الحركة. الإطار المرجعي العقدي للجماعي - كما أوضحته الوثيقة الفكرية التي ظهرت قبل عشر سنوات، والتي رسمت الملامح العامة للبعد العقائدي للجماعة وتصورها لموقعها في الفضاء العام اجتماعيا ودينياً - مما يضع هذه الجماعة أمام ازمة وجودية وصدام مفتوح مع قيم العدالة والمساواة. بل إن هذا الإطار يفصح عن عنف اصيل يعود إلى تصورات فوقية اجتماعية ومذهبية تسحق الاخر المختلف وتبيح انسانيته وتشرعن للعنف باعتباره تنفيذًا لأوامر سماوية وحفاظا على قداسة جينية. 

 

الثاني ويتطرق إلى العنف المكتسب. الحركة الحوثية هي حركة وليدة الحروب أي أنها وليدة عنف أصبح من جيناتها الثقافية. ولهذا فإن تفاعلات الحوثين الاجتماعية والسياسية تنحصر في مدارات العنف كطريقة لإثبات الذات، وأيضا كسلوك سياسي يحقق الأهداف التي نشأت من أجلها الحركة. بصيغة أخرى العنف هو الحركة والحركة هي العنف. 

 

على سبيل المثال، اتجهت الحركة الحوثية في بداية تغلغلها المادي إلى اختيار خصم معين، هو داعش. لم يسمع اليمينيون بداعش داخلياً رغم وجود مكثف أو نسبي لتنظيم القاعدة. فلماذا ابتكر الحوثيون هذا الخصم غير المتجسد في الاذهان؟ 

 

في الإجابة عن هذه النقطة نذهب إلى المذهب التالي: اختار الحوثيون "داعش" ودعوا إلى التعبئة العامة لقتالها كخصم، ليس لأنها النقيض الأيديولوجي لهم فقط وقد لا يكون هذا السبب الحقيقي بالمطلق كما سيشير التحليل التالي. 

 

الاتجاه الى مواجهة الدولة كمشروع سياسي يحتاج مشروعاً سياسياً بديلاً يحقق للناس ما فشلت فيه الدولة من إنجازات من خلال سياسات عامة. وبما أن الحركة الحوثية تقوم على العنف؛ فإنها اختارت خصماً له صورة عنيفة من شاكلتها موجودًا أو تخيلته وانتاجه في خيالها يتيح لها تنفيذ وإعمال العنف في المجتمع. 

 

كان المجتمع يعاني من وجود تنظيم القاعدة على هامش البلاد وكانت تهمة الدعشنة شبحاً غائباً بالنسبة لليمنيين مسموعاً أو مقيماً في وسائل الاعلام التي تنقل لنا الأحداث من سوريا أو العراق. لكن بفعل تكريس التهمة في الفضاء العام؛ خلقت الحوثية قابلية قيام كيان تنظيم داعش في اليمن من خلال تجاوز وحشية العنف الملموس في تنظيم القاعدة نحو عنف متوهم هو داعش.  

 

 

الترعيب وسيلة بقاء ..

 

 

تطالعنا التقارير المحلية اليمنية الحكومية أو تقارير المنظمات غير الحكومية عن سلسلة انتهاكات كبيرة ترتكبها الأطراف المنخرطة في الحرب في اليمن وتتصدر الجماعة الحوثية بنسختها الخالصة بعد التخلص من الشريك صالح قائمة أعمال العنف هذه. 

 

ممارسة القتل والتدمير والتخريب وتفجير المنازل والاعتقالات الواسعة وقمع الحريات وإغلاق دور العبادات أو المؤسسات الدينية ومصادرة الأموال، تلغيم الأراضي... كل هذه الاعمال والمفردات هي من الحقل الدلالي الخاص بالعنف والعنف السياسي إذا تحرينا الغاية النهائية منها كما أسلفنا أعلاه. لكنها أيضا لا تبتعد عن الإرهاب وهو ما سنحاول تبينه لاحقاً. 

 

صحيح أن جماعة الحوثي تمارس حرباً عسكرية ضد وحدات عسكرية وجماعات مقاتلة مناصرة للحكومة اليمنية المعترف بها دولياً أو المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وهي حرب عسكرية بالمعنى التقليدي للحرب بما تتضمن وتخطيط وتنظيم وأدوات نارية مستخدمة. لكنها أيضا تخوض معركة داخلية ضد عموم الشعب وتمارس العنف دون وجه حق دستوري، في ظل غياب أي مرجعية قانونية؛ قتل خارج القانون، اعتقال خارج القانون، معاملة سجناء خارج القانون، تعطيل للقضاء... 

 

بل أن المعركة البينية التي خاضها الحوثيون ضد حليفهم صالح كانت من حيث آلية التنفيذ أي الاستخدام المفرط للقوة المباغتة وما آلت إليه من نتيجة - مقتل صالح-  بهدف إحداث صدمة بين العموم؛ تصب في رسم صورة ترعيب واسع النطاق. إذ كان بإمكان الحوثيين محاكمة صالح -صورياً على الأقل باعتبارهم ممسكين بزمام السلطة ويستطيعون تطويع السلطة القضائية – لكنهم مضوا في قتله على هذا النحو الصادم. قتلوه لأمرين. أولاً، الرغبة في الانتقام وهذا يندرج في إطار العنف كمحرك للجماعة. والثاني هو إحداث صدمة بين أنصاره وخصوم الحوثيين عموماً وبث الرعب والرهبة. 

 

سنحاول هنا إمعان النظر في حقيقة العنف في الحركة الحوثية ومن ثم تقليب أوجه هذا العنف من الناحية السياسية والعقائدية انطلاقاً من التعريف التالي : "الإرهاب هو استخدام العنف غير القانوني، أو التهديد به، بأشكاله المختلفة، كما الاغتيال والتشويه، والتعذيب، والتخريب، بغية هدف سياسي معيّن، ..." 

 

أولاً:

يتجلى إيمان الحوثيين بالعنف في أنهم قاموا على إثر سياق سياسي فيه ممارسات ديمقراطية ناشئة وهشة من قبيل الانتخابات والمظاهرات والاجتماعات والمسيرات التضامنية، إلا أنهم لم يسمحوا بتنفيذ أي نوع من هذه المناشط المعارِضة لسياستهم في مناطق سيطرتهم. بل تم وأدها منذ أول مرحلة لسيطرة الحوثيين ونستذكر هنا أول مظاهرة احتجاجية في بداية العام 2015 ضد الحضور العسكري للحوثيين في تعز راح ضحيتها 9 قتلى وأكثر من 120 جريحاً. 

 

ناهيك عن أنهم قفزوا من المستوى المدني في التعبير عن المسيرات إلى المستوى المقدس، من خلال إقران حركتهم بالقرآن وتسميتها بالمسيرة القرآنية بكل ما يتضمنه المقدس من إقصاء ورفض للاختلاف الذي يواجَه بعنف مقدس هو الآخر أيضا. وهنا نجد أن تسمية المسيرة القرآنية يعكس الوجه الأيديولوجي/ الديني لهذه الحركة. وعندما نقول ديني فأننا نلمح إلى المذهب، بالتالي فإن الصراع يأخذ بعداً مذهبياً، ويتشكل العنف في جوهره لأن المعادلة خارج المسار المدني الديمقراطي تقود إلى الاقصاء والعنف.  

 

ثانياً:

اعتبر الحوثيون تمكنهم من الحكم والسيطرة على صنعاء ثورة، مهما كانت الديباجات التي بُسِطَت لها أو النعوت التي أُلصِقت عليها. وعلى ضوء هذا التصور انشأوا ما أسموه باللجنة الثورية. والثورة هي التغيير القسري. وقد أرادوا من ثورتهم المتسمة بالعنف - خلافاً لثورة 2011 السلمية – انجاز ثورة على ثورة، تروم ردم ما تسعى إليه الأولى أو إعاقة مسعاها. وهذا مبتغىً تقاطعوا فيه مع حليفهم صالح وعليه قام تحالفهم. وقد كان الخلاف بين الحوثيين وحليفهم صالح من جهة وبقية القوى السياسية هو حول التغيير المنشود في بنية الدولة سياسياً وإدارياً والتحول إلى نظام الأقاليم كما أسلفنا. ورفض الحوثيين لهذا التغيير كان عبر "ثورة" تهدف إلى الحفاظ على النسق السلطوي القائم مع توسيع مكاسب لصالح الجماعة الثورية الجديد. أي أننا أمام فعل سياسي قائم على العنف. وهذا يأتي في إطار الإرهاب السياسي. "فالإرهاب السياسي، هو فعل تغييري يرتكز على العنف، ويرمي الفاعل من خلاله، إلى فرض سيطرته ونفوذه، بالرهبة على المجتمع أو الدولة أو هما معا، من أجل الحفاظ على البنية الاجتماعية القائمة، أو من أجل تغييرها أو تدميرها".

 

 

إن أكثر ما ينبغي النظر اليه في الحديث عن العنف السياسي وتداعيتها في هذه المرحلة، أولاً انتقاله من البعد الرمزي الذي يمكن أن يكون مقبولاً فيما لو كان معارضةً للأفكار البرامج، لأن هذا المنحى من صميم العمل السياسي وهذا لو كان حدث سيعزز الحياة السياسية في اليمن. وغيابه عن فعل الحركة الحوثية ينفي عنها الصفة السياسية ويرجح الأبعاد الأخرى فيها منها العقائدية والقتالية. 

 

والثاني؛ هو شمول العنف السياسي ووصوله إلى كل مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في المجتمع اليمني. بالتالي إلحاق الضرر بكل البِنى والهياكل الاجتماعية والسياسية، وقبل هذا الإدارية للدولة اليمنية.

 

ثالثاً: إن الممارسات العنيفة التي تقوم بها الجماعة الحوثية تنسف المشترك العام وتكرس خصوصية ما، وتنتهك القوانين الإنسانية وتتعمد إلحاق الضرر بالمدنيين من خلال الحصار والتجويع كما حدث في مدنية تعز جنوب غرب اليمن لمدة أربعة أعوام، ونسف منازل واغتيالات.  

 

بين العنف والإرهاب ..

 

الحروب الستة التي جرت في صعدت تمحورت بين الجماعة الحوثية والدولة. بالتالي كان العنف في هذا الاتجاه هو عنف سياسي. لكن تراجع الدولة عن بسط نفوذها وعجزها في ذلك، بسبب إدارة حرب في ظاهرها بسط نفوذ الدولة، وفي باطنها تصفية أجنحة داخل منظومة الحكم جعل الغطاء الشعبي والاجتماعي للدولة مكشوفاً في صعدة، ما أتاح للحركة الحوثية أن تصفي حساباتها مع القوى الاجتماعية المعارضة لها في تلك المحافظة. وكل حرب كانت تسير باتجاهين: حرب ضد الدولة، وحرب ضد المجتمع لإخضاعه. وحتى بداية الحرب في عمران في العام 2014م، كان هاذان المساران فاعلين، ومع دخول صنعاء ومن ثم مهاجمة بقية المحافظات كانت الدولة هي المستهدفة، فتعرضت للتآكل ومعها القوى الاجتماعية أيضاً. وهكذا يتوسع اخضاع المجتمع. 

 

ومع التمدد والسيطرة على مقرات الحكومة جرت حملة اعتقالات واسعة لأعضاء الأحزاب الأخرى خصوصاً حزب الإصلاح ونسف منازل الخصوم القبليين والاستيلاء على دور العبادة والمراكز الدينية ذات الأيديولوجية والتوجه المذهبي المختلف.  

 

بالعودة إلى الامتداد الزمني المصاحب لصعود جماعة الحوثي وانتشارها العسكري من أطراف صعدة ووصولاً إلى عدن وبيحان في شبوة. وكمية العنف المصاحبة لهذا الانتشار، وجرعة العنف التي ضُخَّت في النفوس؛ يتضح أن الغرض كان إحداث صدمة سريعة وقطف ثمارها، وبث الرعب والفزع في النفوس. أليس بث الرعب والفزع هو التعريف الحرفي للإرهاب؟ 

 

والمتعارف عليه أن الإرهاب صورة من صورة العنف إلى الدرجة التي تخلق اللبس بين العنف السياسي والإرهاب سواء على مستوى الفاعلين (دولة أو جماعة أو أفراد) أو الدوافع (ممارسة العنف لتحقيق غاية سياسية، التخريب والتدمير، الإكراه، الإجبار...) أو الغايات (التشبث بالسلطة أو السعي إليها أو رفض النظام السياسي والاجتماعي القائم...). إلا أن الإرهاب هو عنف مكثف غايته الأولى بث الرعب وهدم الثقة والاكراه والاجبار.  

 

 

سلوك الجماعة الحوثية؛ خليط بين العنف السياسي الموجه تجاه الدولة، والحرب ببعدها المحلي والإقليمي. لكنه تجاه الداخل يتجلى في إرهاب محلي غايته بث الرعب في المجتمع واكراهه واجباره على المشروع الحوثي القائم على رؤية دينية بعيدًا عن التوافق والاجتماع.   

 

يخلص القول، إنه إرهاب محلي، لأنه موجه عنف مكثف تجاه الداخل في مستوى يصعب رصده دولياً، كونه أولاً، لا يستهدف المصالح الدولية إلى الحد الذي يعطلها. ثانياً، خارج منطق الحرب إقليمياً، فلا ترغب القوى الفاعلة سياسياً في الساحة الدولية بتصنيف السلوك الحوثي هذا إرهاباً، نتيجة للانقسام الواضح في مسألة تصنيف الإرهاب العالمي من ناحية،ولأن له تبعات، تقتضي تنفيذها. إذ أقدم الرئيس ترامب في آخر أيامه الرئاسية على تصنيف الجماعة الحوثية إرهابية لكن خلفه بايدن سارع إلى الغاء هذا التصنيف.  

 

الخلاصة :

نستخلص من تحليلنا أعلاه: أن الجماعة الحوثية تمارس عنفاً منظماً وواعياً غايته ترهيب المجتمع وإكراهه على تقبل مشروعها في الحكم القائم على أسس كهنوتية. وأن التحول الخطير إلى العنف كسلوك ثقافي، يكمن في مسلك التطرف والغلو ونفي الآخر وممارسات إرهابية.

 

ولعل الأمر المعقّد في الحالة اليمنية؛ أن الحديث عن الحرب يقتصر على منظور مادي وخسائر الحرب البشرية المباشرة، والتوقف عند الحالة الإنسانية دون الخوض في مسببات الحالة الانسانية. قد تطغى قداسة النفس على أي قراءة لأي سياق صراعي وهذا أمر متفهم. وهذا قد يكون سبب طغيان النظرة إلى الحرب في اليمن على أساس خسائرها البشرية؛ إلا أن هذه النظرة قاصرة أخلاقايًا للأسباب التالية:

 

أولاً؛ لأنها تتعامل مع الحرب ابتداءً بالنتيجة لا بالسبب. والنتيجة في سياقات الحرب ليست واضحة على الدوام والوصول إليها يحتاج فحصاً وتدقيقاً للخروج من مرحة الإدعاءات إلى الإثبات. 

 

ثانياً؛ أن الحرب قامت على وجوه عديدة، وعدوانها المادي أحد الأوجه، وهناك أوجه معنوية هامة قد تكون المحرك الرئيس في مرحلة من مراحل الصراع. 

 

ثالثاً؛ وبناء على أولاً وثانياً، إن النظر إلى الحرب في اليمن من خلال النتائج وتجاهل الأسباب وعدم إعطاء الأبعاد التاريخية والاجتماعية والمذهبية الحيز الكافي من الاهتمام، لا يسهم في الوصول إلى معالجة عادلة لهذا الصراع. فتوقف الحرب، قد يخفف من النتيجة المباشرة لكنه لا يعني السلام. 

 

رابعاً؛ إن أحد أبعاد هذه الحرب يكمن في رفض عامة الشعب مشروع حكم مذهبي يسلب منهم حقوقهم وحريتهم، يقوم على ادعاء طرف بأفضلية سلالية وأحقية في الحكم، وهذا يجافي الطبيعة السليمة للنفس البشرية التي جُبِلَت على الحرية.  

 

للإرهاب سجل تاريخي في اليمن متمثل في نشاط تنظيم القاعدة وتنظيمات أخرى بمسميات عديدة، وقد عانى الشعب اليمني من ويلات الإرهاب كثيراً وتأثرت سمعة اليمنيين وصورتهم ومصالحهم. إلا أن تبني الحوثيون لخطاب محاربة القاعدة خارج إطار وأدوات الدولة هو فتح مجال للإرهاب المضاد وإشعال فتنة طائفية.

 

التوصيات :

• فهم العنف السياسي الجاري في اليمن في إطار سياقه التاريخي والتعامل مع الأسباب الكامنة لتفجيره بشكل متصل لطرح معالجات مستدامة. وغياب الديمقراطية والمشاركة في بلد متنوع ومتعدد، له خلفية حزبية في الحياة السياسية؛ يقتضي حلولاً ديمقراطية وتشاركية واحترام التجربة السياسية اليمنية. 

 

• إعادة النظر في تقييم سلوك الجماعة الحوثية من الناحية السياسية، لتقدير أبعاد هذا العنف الارهابية، والوعي بهذا البعد والتعامل معه انطلاقا من طبيعته. وهذا يساعد في تصميم أطر سلام مستدام 

 

• أخذ الأبعاد المعنوية (تاريخية، دينية، اجتماعية) في تشريح الحرب الجارية في اليمن بعين الاعتبار ومساندة توق الشعب اليمني إلى الحرية.  

 

• يعاني المجتمع اليمني من ظاهرة الإرهاب التي تمارسها الجماعات الدينية المتطرفة مثل القاعدة لكن معالجة هذا الإرهاب لا تأتي من استنتساخ إرهاب مضاد، ولكن من خلال أدوات مؤسسية وقانونية، وتعبئة مشروعة يسهم فيها المجتمع، ولا تقود إلى حرب مذهبية. 

الهاشتاج
رابط الفيس بوك

حميع الحقوق محفوظة ل مركز المستقبل اليمني للدراسات الاستراتيجية ---- برمجة وتصميم ALRAJIHI