* أ. د/ مطهر عبد العزيز العباسي
جامعة صنعاء
تمثل الديون الخارجية أحد أهم مصادر التمويل للمشاريع التنموية في الدول النامية والفقيرة، ولكنها سلاح ذو حدين، فتكون مفيدة إذا كانت ميسرة وطويلة الأجل وفي الحدود الآمنة والمستدامة، واستغلت لتنفيذ مشاريع تنموية وإنتاجية، ويكون لها مخاطر جسيمة على الاقتصاد والمجتمع إذا تم تراكمها بصورة متهورة، وزادت أعباؤها عن المستوى الآمن والمستدام، ولليمن تجربتها الخاصة مع الديون الخارجية منذ خمسة عقود مضت ومرت فيها بمراحل من الأوضاع الحرجة إلى المستويات المقبولة. وفي ظل الحرب الكارثية التي تمر بها البلاد، فإن تراكم الديون وأعبائها ستظل حملاً ثقيلاً على الاقتصاد الوطني في مرحلة التعافي وإعادة الإعمار، وتعتبر أزمة الديون الخارجية من القضايا الشائكة والمعقدة على مستوى اليمن والدول النامية عموماً، وتحتاج إلى تسليط الضوء على أبعادها ومخاطرها والدروس المستفادة منها.
نظرة عامة:
مع نهاية العقد الماضي، تراكمت الديون الخارجية على الدول النامية (121 دولة) - منخفضة ومتوسطة الدخل - بصورة ملفتة ومقلقة، وأصبحت تشكل أهم عائق لاستدامة التنمية في تلك البلدان، فوفقاً للبيانات الواردة في تقرير "الديون الدولية"، الصادر عن البنك الدولي لعام 2022، بلغت الديون الخارجية لتلك الاقتصادات 9.3 تريليون دولار في نهاية عام 2021، أي أكثر من ضعف قيمته المسجلة قبل عشر سنوات.
وخلال الفترة نفسها، تضاعف إجمالي الدين الخارجي للبلدان المؤهلة للاقتراض من المؤسسة الدولية للتنمية (69 دولة ومنها اليمن) ثلاث مرات تقريباً ليصل إلى تريليون دولار. وبسبب تداعيات جائحة كوفيد 19، وإندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وما نتج عنها من تباطؤ وتيرة النمو العالمي وتزايد معدلات الفائدة دفع بالعديد من الدول النامية إلى الوقوع في أزمة الديون، وأصبحت 60% من الدول الأقل دخلاً في نطاق مرحلة المديونية الحرجة، مما ينذر بأزمة ديون خارجية حادة لها مخاطرها على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الدول الأقل نمواً والدول النامية بشكل عام.
لماذا اللجوء إلى الديون الخارجية ؟
تواجه الدول النامية تحديات جمة في توفير الموارد المالية اللازمة لتمويل مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية ولتحقيق نمو إقتصادي مستدام، وتشمل تلك التحديات ثلاث فجوات هكلية ومزمنة:
(1) فجوة المدخرات المحلية وضرورة جذب الاستثمار الخارجي لسد العجز في الإدخار المحلي.
(2) فجوة الموارد العامة وأهمية الاقتراض الخارجي لتمويل المشاريع التنموية في إطار الميزانية العامة للدولة.
(3) فجوة التجارة الخارجية والحاجة لموارد خارجية لتحفيز الصادرات وتحقيق الاستقرار في ميزان المدفوعات.
وواضح أن الاختلال في تلك الفجوات تدفع الدول النامية إلى اللجوء للاقتراض من مصادر خارجية لتمويل المشاريع التنموية المنفذة من الحكومات أو لتمويل المشاريع الاستثمارية للقطاع الخاص في تلك الدول، وتحصل على تلك القروض وفقاً لاتفاقيات مبرمة بين الحكومة والجهة المقرضة، وتكون ملزمة للمقترض بالوفاء بسداد أقساط الدين وفوائدة، والتخلف عن السداد يجعل البلاد في حالة أزمة مديونية وتوقف المقرضين عن التمويل وبالتالي تعثر مشاريع التنمية ودخول البلاد في حلقة مفرغة تؤدي إلى إتساع رقعة البطالة والفقر وعدم الاستقرار.
مصادر التمويل والديون الخارجية:
تقوم الدول النامية بالإقتراض من مؤسسات التمويل الدولية والإقليمية الموزعة على القارات والأقاليم في العالم، فعلى المستوى الدولي يبرز دور مؤسستا بريتون وودز - الصندوق والبنك الدوليين - في ضبط إيقاع نظام التمويل الدولي وتقديم القروض والمساعدات لدول العالم وفي مقدمتها الدول النامية والدول الأقل نمواً وفقا لمعايير وشروط يتم التوافق عليها بين المؤسستين والدولة المقترضة، فالبنك الدولي يقدم قروض تنموية للدول الأقل نمواً (ومنها اليمن) عبر ذراعه، مؤسسة التنمية الدولية، وتتسم تلك القروض بأنها ميسرة وبدون فوائد ولها فترة سماح تصل إلى 10 سنوات وفترة سداد تتراوح بين 30 و 40 سنة، بينما يقدم البنك قروضه للدول النامية متوسطة الدخل وفقا للشروط التجارية.
كما تلعب مؤسسات التمويل الإقليمية دوراً محورياً في تقديم القروض التنموية والمنح للدول الأعضاء فيها، مثل بنك التنمية الأسيوي وبنك التنمية الأفريقي. وفي المنطقة العربية، هناك البنك الإسلامي للتنمية والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، إضافة إلى الصناديق الوطنية مثل الصندوق السعودي والصندوق الكويتي وغيرهما.
وهناك مسار آخر لتقديم القروض للدول النامية عبر البنوك التجارية العالمية المنتشرة في الولايات المتحدة والصين وأوروبا واليابان والتي تقدم قروضها وفقاً للشروط التجارية في الفوائد وتسديد الأقساط والضمانات، كما أن الأسواق المالية العالمية "البورصات" تمثل أحد مصادر حشد الموارد والقروض للدول النامية - متوسطة الدخل - عبر إصدار السندات الحكومية بالنقد الأجنبي والإلتزام بسدادها وفوائدها وفقا لآجالها المحددة.
وخلال العقدين الماضيين، ازدادت حدة التنافس بين الولايات المتحدة وأوروبا واليابان من جانب، والصين من جانب آخر حول آليات وحجم التمويل والديون المقدمة للدول النامية والفقيرة، وخاصة في أفريقيا وآسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا وأمريكا الجنوبية، فالطرف الأول يقدم الدعم التنموي عبر المؤسسات الدولية والإقليمية القائمة، مثل البنك والصندوق الدوليين، بينما الصين تعتمد المسار الثنائي وعبر آليات خاصة بها، مثل مبادرة الحزام والطريق والبنوك الحكومية الصينية، وكل طرف يتهم الآخر بمحاولة إغراق الدول النامية بالديون وممارسة ما يسمى بالإكراه الاقتصادي لضمان النفوذ والتبعية وتعظيم مصالح الدول المقرضة في تلك الدول المحتاجة للتمويل والديون،
استدامة الديون الخارجية:
من المؤكد أن تراكم أعباء الديون الخارجية لأي بلد له تداعيات خطيرة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فيها، وتجعل تلك الديون غير مستدامة، كما تكون سبباً لعزوف مؤسسات التمويل الدولية والإقليمية عن تقديم القروض لذلك البلد، ويتولى عادة كل من الصندوق والبنك الدوليين إعداد ما يسمى "تحليل إستدامة الديون" للدول المقترضة منهما بهدف تحليل الوضع الراهن للملائة المالية لتلك الدول وتقديم التوصيات والنصائح للدول المثقلة بالديون والتنبيه إلى المخاطر الناجمة عنها، ويقصد بمصطلح "استدامة الديون الخارجية" على أنه قدرة واستعداد البلد المدين على الوفاء بالتزامات خدمة الدين الحالية والمستقبلية بالكامل، دون المساس بالنمو الاقتصادي واللجوء إلى إعادة جدولة الديون أو تراكم المتأخرات.
وهناك عدد من المؤشرات التي تحدد عتبة عبء المديونية وما إذا كانت الديون مستدامة أو غير مستدامة، ومنها:
(1) نسبة الديون الخارجية إلى الناتج المحلي الإجمالي، وتكون الديون الخارجية مستدامة إذا لم تتجاوز نسبة 50% من الناتج المحلي الإجمالي، ولم تتجاوز عتبة 150% من إجمالي الصادرات، ووفقا لهذه المؤشرات، فإن قرابة ثلثي الدول الأقل نمواً بلغ فيها نسبة الديون الخارجية معدلات عالية مما ينذر بأن تلك الدول واقعة فيما يسمى "بمصيدة أو فخ الديون"، بل إن بعضها وصلت إلى مرحلة الإفلاس، لبنان وفنزويلا، مثالاً
حتمية الديون:
في العصر الحديث، لا توجد حكومة في العالم تدير شؤونها المالية والاقتصادية دون ديون محلية أو خارجية، ويصبح اللجوء إلى الديون الخارجية ضرورة حتمية في الدول النامية التي تعاني من فجوة الموارد المحلية. وبشكل عام، فإن الديون الخارجية تكون مفيدة عندما لا تتجاوز الحدود الآمنة ويتم استغلالها لتنفيذ مشاريع تنموية في القطاعات الإنتاجية (الزراعة، الصناعة، التعدين) أو في قطاعات البنية التحتية (الطرقات، الكهرباء، المياه والصرف الصحي، الاتصالات) أو في قطاعات التنمية البشرية (التعليم، الصحة)، وفي هذه الحالة فإن الديون الخارجية تساهم بشكل فعال في تزايد معدلات النمو الاقتصادي وتحسين مستوى الدخل والحد من معدلات البطالة والفقر وتحقيق تطور نسبي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد.
فالمستوى الآمن للديون الخارجية تمكن الدولة من الوفاء بالتزاماتها في تسديد أقساط الديون وفوائدها في أوقاتها دون أن تشكل عبئاً على الاحتياطيات من النقد الأجنبي ودون الوقوع في مخاطر المديونية وعواقبها. وتكون الديون الخارجية مفيدة إذا استخدمت لتمويل مشاريع إنتاجية ذات عائدٍ مجزٍ يفي بسداد الدين، وتشكل عبئاً ثقيلاً إذا استخدمت لأغراض استهلاكية أو لتمويل العجز في الميزانية العامة للدولة.
مخاطر الديون الخارجية:
ومن ناحية أخرى، فإن الدين الخارجي له مخاطر وتبعات كارثية على الاقتصاد الوطني وعلى الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد إذا تجاوز الدين الخارجي الحدود الآمنة وأصبح "غير مستدام"، كأن يشكل أكثر من 100% من الناتج المحلي الإجمالي مع تدني حجم الصادرات الوطنية إلى الخارج، مثال على ذلك في العالم العربي، لبنان ومصر وتونس. وفي هكذا وضع، فإن مخاطر الدين الخارجي تشمل:
-- مخاطر عدم السداد لأقساط الدين والفوائد، وهذا له إنعكاسات سلبية على درجة عدم اليقين لدى الجهات المقرضة والتي تؤثر سلباً على تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة إلى الاقتصاد، وقد يصاحب ذلك هروب رؤوس الأموال إلى الخارج، لبنان مثالاً.
-- التأثر السلبي على التصنيف الإئتماني أو الجدارة الإئتمانية للدولة، وهناك ثلاث مؤسسات دولية أمريكية تتولى هذا التصنيف، وهو مؤشر أو مقياس لتحديد مدى أهلية وقدرة البلد الخاضعة للتصنيف على الاقتراض والوفاء بسداد الدين للمقترضين، وتصنف الدول إلى درجات من A إلى D، فالدرجة A تمثل الأعلى في التصنيف الإئتماني والثقة بالوفاء بالالتزامات المالية، بينما الدرجة D تعتبر عالية المخاطر وتعبر عن التقصير والتخلف عن السداد في جميع الالتزامات المالية، وهي المرحلة التي تصل فيها الدولة إلى حالة الإفلاس، وتكاد تكون كل الدول الأقل نمواً لاتندرج ضمن هذا التصنيف، فكلما كانت درجة التصنيف الإئتماني للدولة منخفضة، كان ذلك مؤشر لعزوف الجهات المقرضة عن تقديم القروض أو الاستثمار في تلك الدولة.
-- إن تراكم الديون الخارجية وأعباءها في أي بلد يعبر عن إختلالات عميقة في إقتصادها مما يجبرها على اللجوء إلى مؤسسات التمويل الدولية - الصندوق والبنك الدوليين - لطلب الدعم المالي والفني والقبول ببرامج إعادة هيكلة الاقتصاد وتنفيذ إجراءات تقشفية تكون لها تداعيات سلبية على مستوى معيشة المواطنين، وقد تقود إلى إضطرابات وعدم استقرار سياسي واجتماعي في البلاد.
-- إضافة إلى أن تراكم الدين الخارجي يزيد من حجم أقساط السداد وفوائد الدين مقيماً بالعملة الأجنبية وهذا يؤدي إلى استنزاف رصيد الدولة من الاحتياطيات الأجنبية مسبباً تقلبات في سعر الصرف وإرتفاع في معدلات التضخم وبالتالي تدهور مستوى معيشة المواطنين.
-- إن تزايد فاتورة خدمة الدين (الأقساط والفوائد) تشكل عبئاً ثقيلاً على الميزانية العامة للدولة على حساب الإنفاق العام على مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية وخاصة في مجال الخدمات الاجتماعية الأساسية.
-- وتبلغ مخاطر الدين الخارجي ذروتها عندما تلجأ الدولة للحصول على ديون جديدة لتسديد ديون قديمة، وهو ما يعرف "بنموذج بونزي"، وهذا يعني تفاقم مشكلة الديون على أجيال الحاضر وتراكم أعباء سدادها على أجيال المستقبل.
حالة اليمن:
خلال الخمسين سنة الماضية لم تتراكم الديون الخارجية على اليمن ولم تصل إلى الحدود الخطيرة، إلا بعد الوحدة المباركة نتيجة تراكم ديون الاتحاد السوفيتي على الشطر الجنوبي، وتم إعادة تقييمها وجدولتها ضمن مشاورات نادي باريس، في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، وأصبحت ضمن الحدود الآمنة والمستدامة، إلا أن تداعيات الحرب جعلت اليمن تتخلف عن سداد أقساط الديون وفوائدها وهذا سيشكل عبئاً على الاقتصاد في مرحلة ما بعد الحرب وتحقق السلام والاستقرار.
الوضع الراهن للديون الخارجية:
ووفقاً للبيانات المنشورة في تقرير "الديون الدولية" الصادر عن البنك الدولي، فإن حجم الديون الخارجية لليمن بلغت حوالي 7.6 مليار دولار، في عام 2021، ومثلت حوالي 40% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذه النسبة مقبولة وعند المستوى الآمن والمستدام، ذلك أن الديون تشكل أزمة اقتصادية عندما يتجاوز حجمها 100% فأكثر من الناتج المحلي الإجمالي، كما حصل في بعض الدول "لبنان مثالا"
وبسبب إندلاع الحرب في عام 2015، توقفت اليمن عن سداد أقساط الديون وفوائدها، كما تجمدت السحوبات من القروض الجارية، حيث أن معظم الجهات المانحة أوقفت القروض المتوافق عليها، واستبدلتها بتقديم منح لتمويل برامج ومشاريع الإغاثة الإنسانية وتحسين سبل العيش، كما حدث مع البنك الدولي.
وتتسم معظم الديون الخارجية لليمن بأنها ميسرة وطويلة الأجل وتشكل قرابة 80% من إجمالي الديون، ومقدمة من المؤسسات الدولية والإقليمية "متعددة الأطراف" - البنك الدولي، الصندوق العربي، البنك الإسلامي وغيرها- حيث تسهم ديونها بحوالي 38% من إجمالي الديون وتساهم المصادر "الثنائية" - الصندوق السعودي، الصندوق الكويتي وغيرهما - بقرابة 42% من الديون، ولا توجد ديون خارجية على اليمن مقدمة من البنوك التجارية الدولية، وأيضاً لا توجد ديون خارجية على القطاع الخاص اليمني.
من جانب آخر، يواجه الاقتصاد اليمني أزمة حرجة في تراكم الديون المحلية والتي حصلت عليها الحكومة خلال العقدين الماضيين من إصدار أذون الخزانة والسندات الحكومية بلغت مع فوائدها أكثر من 5 تريليون ريال يمني، معظمها للبنوك وصناديق التقاعد والقطاع الخاص، وقد تسببت هذه الديون بأزمة حادة بالسيولة النقدية للجهاز المصرفي في مناطق سلطة صنعاء نتيجة تخلف الحكومة عن الوفاء بالتزاماتها تجاه الدائنين، وزاد من تعقيد الوضع إصدار سلطة صنعاء لتشريع يجرم الفائدة على ذلك النوع من الاستثمارات وإلغاء الفوائد المتراكمة عليها، مما أصاب الجهاز المصرفي بالأرباك والشلل وجعل الجهات المستثمرة في مرحلة إعسار مالي أو في حالة إفلاس غير معلنة.
كما أن القانون المشار إليه والصادر من سلطة صنعاء ألغى العمل بكافة الأحكام والقواعد في القوانين والاتفاقيات الدولية المصادق عليها، التي تضمنت جواز العمل بالفوائد على الديون الخارجية المقدمة من الجهات المقرضة، وهكذا تشريع يمثل إعلاناً لعزلة اليمن وإنغلاقه عن محيطه الإقليمي والدولي، ونقضاً للعقود والمواثيق ونكراناً للجميل الذي قدمته تلك الدول والمؤسسات لعصرنة المجتمع في مختلف القطاعات، وتوجهاً لتموضع اليمن ضمن الدول المنبوذة من الأسرة الدولية.
الديون وتمويل التنمية:
خلال الفترة 1970-2014، نفذت اليمن سلسلة من خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية في شمال الوطن وجنوبه وفي الوطن الموحد في عام 1990، وتم تنفيذ العديد من المشروعات التنموية بتمويل خارجي من المنح والمساعدات أو عبر الديون الخارجية، ويمكن القول إن الحكومات المتعاقبة استغلت الديون الخارجية في تنفيذ مشاريع مهمة شملت كافة المحافظات ومختلف القطاعات الحيوية كالطرقات الرئيسية والريفية ومحطات توليد الكهرباء ومنظومة النقل والتوزيع لها، والمياه والصرف الصحي ومشاريع التعليم العام والفني والجامعي ومرافق الصحة العامة من مستشفيات ومراكز صحية وغيرها من القطاعات، وتعثرت الحكومة في تنفيذ مشاريع حيوية ممولة من الديون الخارجية بسبب شبهات فساد وتجاوزات مخالفة للقوانين النافذة والاتفاقيات المبرمة مع الجهات المقرضة، مطار صنعاء مثالاً.
وخلال العقود الماضية، فشلت الحكومات المتعاقبة في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر وغير المباشر كأحد المصادر المهمة لتمويل مشاريع التنمية الاقتصادية، باستثناء الاستثمار في قطاعات النفط والغاز رغم ما شابها من شبهات فساد وتفريط بالحقوق السيادية، كما أخفقت الحكومات في تقنين أطر الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص المحلي والأجنبي لتنفيذ مشروعات طويلة الأجل في القطاعات الإنتاجية أو في البنية التحتية والتي تعجز الحكومة عن تنفيذها، وهذا النموذج أثبت نجاحه في عدد من الدول، تركيا مثالاً.
سياسة الاقتراض الخارجي:
منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي عندما تم إنشاء البنك المركزي والجهاز المركزي للتخطيط في الشطر الشمالي، اتبعت الحكومات المتعاقبة منهجاً عقلانياً ووطنياً في التعامل مع الديون الخارجية، وواصلت ذلك النهج وزارة التخطيط والتعاون الدولي، حيث تجسدت سياسة الاقتراض من الخارج في عدد من المبادىء منها:
- الحرص على أن تكون الديون الخارجية ميسرة، أي تكون فوائدها عند الحد الأدنى وفترة سدادها طويلة الأجل، وشروطها ملائمة وتراعي الوضع الاقتصادي للبلد
- الحصول على الديون الخارجية من مؤسسات التمويل الدولية مثل البنك الدولي أو مؤسسات تمويل إقليمية مثل الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، وفقاً للسقوف التي تحددها تلك المؤسسات.
- استخدام الديون الخارجية لتمويل مشروعات تنموية في قطاعات الكهرباء والطرق والمطارات والموانىء والمياه والصرف الصحي والتعليم والصحة وغيرها
- عدم الاقتراض من بنوك ومؤسسات مالية تجارية، لأن فوائدها عالية وشروطها مجحفة وتبعاتها مدمرة، كما حدث لبعض الدول النامية في الماضي والحاضر،
- الإلتزام بسداد أقساط القروض والفوائد وفقاً للجداول الزمنية المتفق عليها مع المقرضين.
تداعيات الحرب:
وبعد مرور قرابة 9 سنوات على إندلاع الحرب، فإن القروض الخارجية أصبحت تمثل عبئاً على كاهل الموارد المالية المتاحة، الحالية والمستقبلية، للاقتصاد اليمني، ذلك أن قيمة القروض مقيماً بالريال تزايدت بمقدار 3 أضعاف تقريباً ، في مناطق صنعاء، وتضاعفت إلى 7 أضعاف في مناطق عدن، بسبب التصاعد المستمر لسعر صرف الريال مقابل الدولار، والتباين الكبير في السعر بين مناطق صنعاء وعدن، وفي الحالتين، فإنها تشكل نسبة عالية من الناتج المحلي المتراجع أصلاً، مما يجعلها في الحدود غير الآمنة، وهذا الأمر يتطلب الدخول في مفاوضات مع الجهات المقرضة بهدف إعادة تقييم الديون المستحقة وفوائدها وإعادة جدولتها وإمكانية الإعفاء منها كلياً أو جزئياً، فمهمة إعادة بناء ما دمرته الحرب تمثل تحدياً كبيراً في المستقبل، والبلد بحاجة إلى كل ما هو متاح للمساعدة في تعافي الاقتصاد وتجاوز ويلات الحرب ومخلفاتها.
والأمل في أن تضع الحرب أوزارها حتى تستغل موارد البلاد في التنمية وإعادة الإعمار وتستأنف العلاقات والتعاون المثمر مع الجهات المقرضة والمانحة لتعود عجلة التنمية إلى الدوران ويعم السلام والاستقرار في ربوع اليمن المنكوب.
الدروس المستفادة:
هناك دروس مستفادة للدول النامية ناتجة عن التعامل مع كافة مؤسسات التمويل الدولية والإقليمية وتراكم الديون الخارجية منها، ويمكن إبرازها فيما يلي:
- خلال العقود الماضية تعددت مؤسسات التمويل الدولية والإقليمية المتعددة والثنائية، وكان لها دور في تقديم الديون لدعم وتمويل مشاريع التنمية في الدول النامية، إلا أن فجوة التنمية بين الدول المتقدمة والنامية تزداد إتساعاً مع مرور الزمن، مما جعل تأثير تلك التمويلات والمشاريع محدودة الأثر على الأوضاع التنموية وعلى مستوى معيشة الفرد في الدول المتلقية للديون والمساعدات، وبالمقابل تراكمت الديون الخارجية وفوائدها على الدول النامية المقترضة وأصبحت تشكل عبئاً ثقيلاً على الموارد المحلية المحدودة وعلى الأجيال الحاضرة والمستقبلية.
- برزت في السنوات الأخيرة، أزمة الديون الخارجية في عدد من الدول النامية، لبنان وسيريلانكا، مثالاً، حيث وصلت تلك الدول إلى حالة العجز عن سداد أقساط الديون والفوائد المترتبة عليها، وهو ما يعرف بحالة "إفلاس الدولة"، كما تبين تقارير البنك الدولي أن عدداً من الدول النامية تمر في "عنق الزجاجة"، وقد تقع في "فخ المديونية"، إذا لم تقم بإصلاحات هيكلية وجوهرية في اقتصاداتها، وهذه الدول تشمل: الأرجنتين ومصر وكينيا وتونس، وبالتأكيد، ستضطر تلك الدول إلى تنفيذ إصلاحات صارمة وإجراءات تقشفية تفرضها برامج صندوق النقد الدولي لتحسين الوضع النقدي والمالي في اقتصاداتها، وقد ينتج عنه تذمر وغضب بين الشرائح الأقل دخلاً وعدم استقرار اقتصادي واجتماعي وسياسي، ومن جانب آخر، تفيد تقارير البنك الدولي أن اليمن مع عدد من الدول الأقل نمواً (أفغانستان، إريتريا، موريتانيا، طاجيكستان، الصومال، السودان)، تواجه مخاطر أزمات متلازمة، أزمة الديون وأزمة الغذاء، كما أن اليمن يواجه أزمة الحرب والدمار وهذا يجعله في وضع أسوأ من قرنائه.
- إذا كانت القروض الخارجية شر لا بد منه، فلا يجب التهور في توسيعها وتراكمها لمخاطرها على وضع الجدارة الإئتمانية للاقتصاد الوطني وتعريض البلاد لإملاءات وتدخلات المؤسسات المالية الدولية، وأمام الحكومات إنتهاج بدائل ناجعة تعود بالنفع على الاقتصاد والمجتمع، وأهمها إيجاد وتوفير بيئة مواتية وحاضنة للاستثمار الوطني وجاذبة للاستثمار الخارجي المباشر، وهذا الأمر يتطلب جهوداً غير عادية لضمان الاستقرار السياسي وسلامة السياسات الاقتصادية والإدارية ووجود جهاز مصرفي فعال وتعزيز أجهزة القضاء والحكومة، وإنفاذ القانون لحماية حقوق المستثمرين، ويعتبر الاستثمار الأجنبي المباشر مجالاً للتنافس الشديد بين الدول المتقدمة والدول النامية، وهذا يعطي أملاً للدول النامية في إصلاح أوضاعها للحصول على جزء من الكعكة، كما يقال.
وقد أثبتت تجارب بعض الاقتصادات الصاعدة في مناطق مختلفة من العالم نجاحاً ملموساً في حذب واستقطاب الاستثمارات الخارجية وعوائده على الاقتصاد والمجتمع، ومن تلك الأمثلة إقتصادات الصين والبرازيل وماليزيا وتركيا وفيتنام وراوندا وجميعها حققت نموا اقتصادياً مذهلاً خلال العقدين الماضيين، إعتماداً على توفير البيئة المناسبة والحاضنة للاستثمار الوطني والخارجي.
وبالنسبة للاقتصاد اليمني، تركز الاستثمار الأجنبي المباشر، قبل الحرب، في قطاعات النفط والغاز بشكل رئيسي، ومع ظروف الحرب الراهنة، فإن بيئة الاستثمار أصبحت طاردة لكل من المستثمر الوطني والأجنبي، كما أن الاقتصاد سيظل بعيداً عن الوفاء بمتطلبات البيئة الجاذبة للاستثمار في المستقبل المنظور.
وإجمالاً، فإن الدول النامية، وخاصة الأقل دخلاً، ومنها اليمن، تواجه معظلات وتحديات سياسية واقتصادية واسعة وعميقة، ويتحتم على الدول المتقدمة وعبر مؤسسات التمويل الدولية والإقليمية أو عبر المبادرات العالمية تحييد الدعم التنموي عن أي صراع أو تنافس ومساعدة الدول الأقل حظاً في الوقوف على قدميها واستغلال ثرواتها المادية والبشرية لتحسين مستوى معيشة الفرد والمجتمع على السواء.