13 ديسمبر 2023 تحميل ملف pdf

 

أ. د. مطهر عبد العزيز العباسي

 

جامعة صنعاء

 

خلال جولات التفاوض المتعاقبة بين أطراف الحرب والصراع في اليمن، يكاد يكون الملف الاقتصادي غائباً أو يأتي باعتباره قضية ثانوية في جدول أعمال طرفي التفاوض "السلطة الشرعية في عدن و"سلطة الأمر الواقع" في صنعاء"، ومنذ إعلان الهدنة بين الطرفين في أبريل 2022م، برز النقاش الجاد حول الملف الاقتصادي، وتحديداً حول تقاسم عوائد النفط والغاز، وحول الموارد العامة الأخرى مثل الضرائب والجمارك وغيرها وكيفية حشد الموارد لسداد مرتبات موظفي الأجهزة الحكومية في مناطق سيطرة سلطة صنعاء، رغم أن هذا الموضوع يعد أحد بنود إتفاق استوكهولم في عام 2018م، لكن لم ينفذ بسبب إخفاق سلطة صنعاء بالوفاء بالتزاماتها نحوه، كما أن أطراف الصراع ربما لايدركون أبعاد الأزمة الإنسانية المقلقة والأزمة الاقتصادية الحادة، ويتجاهلون الاستحقاقات الاقتصادية المرتبطة بإعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي وتوفير البيئة المواتية للاستثمار، وتهيئة الاقتصاد الوطني للإندماج مع الاقتصاد الإقليمي والدولي.

 

الوضع الراهن للاقتصاد اليمني

 

يمر اليمن بمنعطف تأريخي خطير منذ إندلاع الحرب المدمرة والعبثية، أواخر عام 2014م، بين أطراف الصراع "عدن وصنعاء" وخلال تسع سنوات، أدت الحرب إلى بروز أزمة إنسانية كارثية في اليمن صنفتها الأمم المتحدة بأنها الأسوأ في العالم المعاصر، فهناك قرابة 80% من السكان بحاجة إلى المساعدات الإنسانية وخدمات الحماية، إضافة إلى أن إنعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية من أعلى المعدلات في العالم، وارتفاع معدل البطالة عند الشباب بين 50 إلى 60 %، كما أن  أكثر من 4 مليون شخص أصبحوا نازحين في الداخل أو لاجئين في الخارج، كما يشمل مئات الألآف من الموظفين العمومين الذين فقدوا مرتباتهم الشهرية لأكثر من 7 سنوات. 

 

كما أدت الحرب إلى أزمة اقتصادية حادة تمثلت في تدهور النمو الاقتصادي، وتزايد معدلات البطالة والفقر، والتراجع الحاد في عوائد صادرات النفط والغاز وعدم القدرة على دفع مرتبات موظفي الدولة في معظم المحافظات، إضافة إلى تدهور القوة الشرائية للريال وارتفاع معدل التضخم في البلاد،  كما أن الحرب أدت إلى التراجع الحاد في تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين وخاصة خدمات الكهرباء والمياه والصرف الصحي، وخدمات التعليم والصحة، فضلاً عن التدهور الكبير في قطاع الطرقات والجسور والمطارات والموانىء بسبب الأضرار التي أصابت تلك القطاعات.

لقد أفرزت الحرب إقتصاداً مشطراً بين مناطق صنعاء وعدن وكل مكون ينتهج سياسات وإجراءات مالية ونقدية وتجارية مناقضة للآخر، كما أن سلطة صنعاء أصابت القطاع المصرفي في مقتل، فقد أصدرت قانون بمنع التعاملات الربوية أدى إلى شلل الجهاز المصرفي وعمق التشطير وينذر بكارثة للبنوك التي تواجه الإعسار المالي ومن ثم الإفلاس.

 

 

الأولويات العاجلة في مرحلة الهدنة

 

رغم الأزمات الحادة التي يمر بها اليمن، فإن الآمال ما تزال قائمة في إمكانية تجاوزها في الآجال المتوسطة والطويلة، ويمكن استغلال فترة الهدنة التي أصبحت شبه ثابتة لأكثر من عام في جنوح طرفي الصراع إلى توافقات أساسية وضرورية لمعالجة مظاهر التشطير والإنقسام في الاقتصاد والتشوهات والاختلالات المصاحبة لها، ووضع الحلول للأولويات العاجلة، وتشمل الآتي:

 

أولاً: توحيد البنك المركزي، وهذا يتطلب التوافق على الترتيبات المؤسسية والإدارية والتنظيمية لتوحيد البنك من خلال تشكيل وتوسيع مجلس إدارة مشترك للبنك بالتقاسم بين سلطتي صنعاء وعدن، وتفعيل الربط الشبكي الإلكتروني بين البنك وجميع الفروع، بحيث يكون المقر الرئيسي للبنك في عدن باعتباره المؤسسة المعترف بها دوليا والمرتبط بنظام "سويفت" -SWIFT - للتحويلات الدولية.

 

وتتحدد المهام العاجلة للبنك المركزي في إدارة السياسة النقدية لضمان توفير السيولة المالية ومكافحة التضخم، وتوحيد العملة وإدارة سعر الصرف، والامتناع عن الإصدار النقدي، إضافة إلى إدارة حسابات الحكومة المحتوية على الموارد السيادية "عوائد صادرات النفط والغاز والضرائب والجمارك" وتسهيل الصرف على بنود النفقات العامة وأهمها المرتبات، فضلاً عن معالجة الإختلالات في النظام المصرفي المشطر بسبب التشريعات الكارثية الصادرة من سلطة صنعاء.

 

ثانيا: إدارة الموارد السيادية؛ (عوائد النفط والغاز، الضرائب والجمارك)، وهذا يحتاج إلى التوافق على إعادة تصدير النفط والغاز مع الحفاظ على الحقوق السيادية لليمن، إضافة إلى وضع أسس ومعايير تقاسم الموارد السيادية بين طرفي الصراع، ومن تلك المعايير: الكثافة السكانية وحجم الموظفون العموميون ومقدار الضرائب والجمارك،  في مناطق سلطة كل طرف، مع إعطاء أولوية لصرف مرتبات موظفي الدولة في إطار سلطة صنعاء والمحرومين منها لقرابة سبع سنوات عجاف.

 

ثالثاً: اعتماد أسس وآليات المشاركة في الموارد العامة السيادية بين حكومات المركز وسلطات الحكم المحلي في المحافظات، وخاصة تلك المحافظات المنتجة للنفط والغاز، أو التي فيها منافذ جمركية برية وبحرية. ولمعالجة ذلك يمكن اعتماد ما تم التوافق عليه في مؤتمر الحوار الوطني حول إمكانية تخصيص نسبة 20 إلى 25% من عوائد النفط والغاز أو من إيرادات الضرائب والجمارك المحصلة في المحافظات المعنية وتوجيه تلك الموارد لتمويل مشاريع التنمية في تلك المحافظات.

 

رابعاً: ضرورة رفع الحصار والحواجز عن بعض المدن والطرقات الرابطة بين المحافظات، ويأتي في مقدمتها رفع الحصار عن مدينة تعز، الذي يتسبب في معاناة إنسانية لسكان المدينة والمحافظة، إضافة إلى فتح المعابر في الطرقات الرئيسية بين المحافظات الأخرى، لتسهيل حركة المواطنيين وتنقلاتهم وانسياب التجارة الداخلية للسلع بين المحافظات بكل سهولة ويسر.

 

بالتأكيد؛ فإن تنفيذ تلك الأولويات ستعطي رسالة واضحة لجميع الشركاء بأن أطراف الصراع ينشدون السلام ويتطلعون إلى بناء اقتصاد مستقر وتأسيس علاقات بناءة مع المحيط الإقليمي والدولي.

 

استحقاقات مرحلة السلام

 

في ضوء اجتياز مرحلة الهدنة، فإن أمام أطراف الصراع استحقاقات كبيرة تفرض على الجميع تقديم التنازلات والجنوح للحوار والدخول في مرحلة السلام والبدء بإعادة بناء الدولة على أسس سليمة. 

 

ومتطلبات هذه المرحلة في الجانب السياسي تشمل:

 

أ. العمل على إخراج اليمن من مظلة الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة، فاليمن في وضعه الراهن منقوص السيادة وتحت الوصاية الدولية، كما أن المجال مفتوح للتدخل الخارجي فيه عسكرياً، ومفروض عليه عقوبات وحصار اقتصادي، وعلى النخبة السياسية من الأطراف المتصارعة أن تدرك ذلك جيدا، وأن تسعى جاهدة لطي صفحة ذلك الفصل في أقرب الآجال، 

 

ب. التوافق على طبيعة وأسس بناء الدولة، بما في ذلك صياغة الدستور، وأسس وقواعد الانتخابات للقيادات العليا في السلطة التنفيذية وانتخابات المجالس التشريعية، وقواعد وضوابط عمل السلطة القضائي، إضافة إلى التوافق على عدد الأقاليم التي تتكون منها، وكيفية العلاقة بين حكومات الأقاليم وحكومة المركز، وكيفية توزيع الموارد السيادية بينها.

 

وفي موازاة التوافقات السياسية، يتطلب الأمر وضع برنامج تنموي لإعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي وحشد الموارد المالية للتمويل، إضافة إلى تبني برنامج للإصلاحات الاقتصادية والمؤسسية وتهيئة البيئة المواتية للاستثمار الوطني والأجنبي، كما يلي:

 

أولاً: تنفيذ برنامج تنموي للتعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار:

 

واضح إن إعادة الإعمار لما دمرته الحرب تحتاج إلى جهود وطنية هائلة ودعم إقليمي ودولي كبير، ويمكن الإشارة هنا إلى ماورد في وثيقتين هامتين أصدرهما البنك الدولي حول تكلفة الأضرار التي لحقت بالاقتصاد وحجم الاستثمارات العامة والخاصة المطلوبة لإنعاش الاقتصاد حتى عام 2030م، ويبين تقرير البنك الدولي بعنوان "التقييم المستمر للاحتياجات في اليمن" لعام 2020م، أن الاحتياجات الخاصة بالتعافي وإعادة الإعمار تقدر ما بين 20 و 25 مليار دولار على مدى خمس سنوات، علما بأن التقرير شمل 15 مدينة رئيسية وثانوية و 8 قطاعات فقط. وتشير وثيقة البنك الدولي بعنوان "نحو خطة للتعافي وإعادة الإعمار في اليمن"، عام 2017، أن تحقيق النمو التحويلي السريع لليمن حتى عام 2030، يتطلب برنامجاً للاستثمارات العامة والخاصة تبلغ 100  مليار دولار، منها 54 مليار دولار استثمارات عامة و46  مليار دولار استثمارات خاصة، وهذه المعطيات تؤكد الحاجة إلى أهمية الشراكة بين حكومة المرتقبة لليمن الموحد والجهات المانحة والقطاع الخاص لتنفيذ المشاريع التنموية المقترحة حتى نهاية هذا العقد. 

 

واعتماداً على ما ورد أعلاه، يستلزم الأمر إعداد وتنفيذ برنامج تنموي للتعافي وإعادة الإعمار خلال ثلاث سنوات بالتركيز على تحسين الأوضاع الإنسانية للفئات المتضررة من الحرب، وإعادة الإعمار وإصلاح الأضرار في قطاعات البنية التحتية، إضافة إلى إعادة الإعمار والتأهيل في قطاعات التنمية البشرية.

 

 

التعاون الدولي وحشد الموارد: يتطلب تنفيذ البرنامج تكثيف التنسيق والتعاون الدولي لحشد الموارد، من خلال  الإعداد والتحضير لمؤتمر دولي للمانحين تساهم فيه الدول الشقيقة والصديقة، وعلى رأسها دول التحالف "السعودية والإمارات" إضافة إلى مؤسسات التمويل الدولية والإقليمية، لتعبئة الموارد لتمويل مشاريع إعادة الإعمار، كما يمكن التوجه شرقا نحو الصين، من خلال الإنضمام إلى مبادرة الحزام والطريق وإلى البنك الأسيوي للاستثمار في البنية التحتية، وإنضمام اليمن إلى عضوية المبادرة والبنك سيمثل نافذة مهمة للحصول على تمويلات ميسرة لتنفيذ مشاريع إعادة الإعمار في قطاعات البنية التحتية وسيساهم في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في عموم البلاد.

 

 

ثانياً: اعتماد برنامج للإصلاحات الاقتصادية والمؤسسية

 

لضمان نجاح مرحلة السلام، يتطلب الأمر تبني برنامج شامل وطموح للإصلاحات الاقتصادية والمؤسسية، وذلك بهدف إعادة تأهيل وهيكلة الاقتصاد اليمني، وفقا لأفضل الممارسات الدولية، من خلال تنفيذ عدد من السياسات والإجراءات على أكثر من مسار بشكل متلازم ومتزامن:

 

- تبني سياسات مالية رشيدة، قائمة على إدارة الميزانية العامة بصورة شفافة ونزيهة وخاضعة للمساءلة والمحاسبة، وتهدف إلى تنمية الموارد العامة من عوائد النفط والغاز، وإجراء إصلاحات ضريبية وجمركية بهدف تنويع مصادر الإيرادات العامة حتى تتمكن الدولة من الوفاء بإلتزامات الإنفاق العام، ومنها المرتبات وتمويل المشاريع الإنمائية.

 

- وضع سياسة نقدية ملائمة ومنضبطة بهدف توفير السيولة المناسبة والسيطرة على التضخم، وتوحيد وإدارة سعر الصرف وتنمية الاحتياطيات الدولية من النقد الأجنبي لضمان استقرار أسعار العملة في سوق الصرف، إضافة إلى معالجة الاختلالات في الجهاز المصرفي الناجمة عن الإجراءات الخاطئة خلال فترة الحرب،

 

- اعتماد سياسات تجارية منفتحة وتفعيل عضوية اليمن في منظمة التجارة العالمية ومعالجة التشوهات القائمة في الممارسات والإجراءات المتعارضة مع الاتفاقيات الدولية لضمان بناء الثقة بين اليمن والمنظمة والدول الأعضاء فيها.

 

- وضع برنامج فعال لإصلاح وتحديث جهاز الخدمة المدنية وترشيق الجهاز الحكومي الذي أصابه الترهل والتضخم خلال فترة الحرب، فقد عمدت كل من سلطتي صنعاء وعدن إلى زيادة التوظيف في مؤسسات الدولة بشكل مفرط مما يجعل فاتورة المرتبات لموظفي الدولة تفوق بكثير الموارد العامة المتاحة في الميزانية العامة.

 

- إعادة هيكلة وتفعيل الأجهزة المعنية بتعزيز الحوكمة والحد من الفساد، مثل الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد واللجنة العليا للمناقصات والهيئة العليا للرقابة على المناقصات، وتفعيل القوانين واللوائح المعنية بنظام المناقصات العامة وتنفيذ العقود مع المقاولين لضمان الشفافية والمساءلة والنزاهة والحد من العبث والفساد في المشتريات الحكومية.

 

 

ثالثاً: توفير بيئة حاضنة للاستثمار

 

بالتأكيد، فإن التعافي وإعادة الإعمار  يتطلب تعزيز الشراكة مع القطاع الخاص، وفتح المجال أمامه للاستثمار في بعض القطاعات الواعدة، وتهيئة البيئة المحفّزة والحاضنة للاستثمار الوطني والأجنبي، والتي تتطلب الاستقرار السياسي والأمني، والتنفيذ الفعال للقوانين واللوائح المنظمة للاستثمار ووجود جهاز تمويل مالي ومصرفي فعّال، إضافة إلى سلامة أداء أجهزة النظام القضائي والمحاكم، وتوفر البنية التحتية اللازمة لإنشاء المشروعات الاستثمارية، وبناء قدرات الموارد البشرية وتأهيلها وتدريبها لرفد سوق العمل، فضلا عن تنفيذ سياسات اقتصادية سليمة، وتبسيط الإجراءات الإدارية، وسلامة أداء الأجهزة الأمنية لإنفاذ القانون وحماية المستثمرين.

 

 

ختاماً، فإن معالجة الأزمة الاقتصادية تتطلب إتفاقاً سياسياً للسلام بين أطراف الصراع، كشرط مسبق وضروري لتحريك عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والكل يأمل أن يتحلى أطراف الصراع بالشجاعة والنبالة في طي صفحات الدمار والخراب، وتحمل مسؤولية الحفاظ على الوطن الممزق، والجنوح إلى التوافق على العيش المشترك، وهناك مؤشرات إلى أن عام 2024م قد يمثل نقطة انعطاف إيجابية لإنهاء الحرب والصراع وتحقيق السلام والاستقرار بالبلاد،

 

الهاشتاج
رابط الفيس بوك

حميع الحقوق محفوظة ل مركز المستقبل اليمني للدراسات الاستراتيجية ---- برمجة وتصميم ALRAJIHI