6 إبريل 2024 تحميل ملف pdf
مركز المستقبل اليمني للدراسات الاستراتيجية
مركز المستقبل اليمني للدراسات الاستراتيجية

 

                   

أبوبكر باذيب                                                                       

باحث في الشؤون الاستراتيجية

زميل كلية الدفاع الوطني–أكاديمية ناصر العسكرية

 

(دورية"الملف المصري"-مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية)

 

فرضت الجغرافيا اليمنية بوعورة جبالها ومرتفعاتها تأثيراتها على مشهد وأزمة تداخلت خطوطها وأبعادها بواقع محلي متناقض، وصعب إنسانياً، وأجندة إقليمية إختلطت أوراقها، ومزاج دولي تباين وتعارض كثيراً في تناوله للازمة اليمنية، وفق مقتضيات ترتيبه لأولويات مصادر التهديد التي حددها بناءً لقراءته للمصالح في المنطقة العربية، والتي قد تكون أهدرت فرصاً لتحقيق السلام والاستقرار.

 

وسمح ذلك بسردية غير متوازنة لتطور الصراع الداخلي في اليمن وخلق توازنات للضعف، وقوى ارتهنت للخارج، ومجتمع فقد تماسكه وتمزق نسيجه الاجتماعي، انهار فيها الاقتصاد، وضاعت بوصلة العقلاء، وأفرزت الأوضاع إنقسامات مجتمعية عرضية وطولية، كرست فوارق لهويات طائفية وسلالية ومناطقية سيكون من الصعب تجاوزها مستقبلاً نظراً لتشبع الاجيال التالية بها، وتأثيرها على كل مناحي الحياة.

 

مشهد معقد لا تنفصل تأثيراته المحلية عن الصراع في فلسطين والأزمات في سوريا والعراق ولبنان والسودان، بل انه يمتد ليتجاوز الأبعاد الإقليمية الى الدولية، ليتجاوز مصطلح "توحيد الساحات" الى تأثير وتوحيد الازمات على بعضها.

 

أولاً: القوى التي تحكم اليمن

يصعب على الكثير من المراقبين تقديم قراءة واضحة للمشهد اليمني، نظراً لتقاطع مصالح وأهداف الفصائل التي تحكم الجغرافية اليمنية، واختلاف المحددات التي تدفع كل طرف نحو تحقيق أهدافه، إما بتأثيرات مصالحه الداخلية أو ما تفرضه التدخلات الخارجية بقوى ناعمة حيناً وخشنة حيناً اخرى، وذلك في كافة تفاصيل المشهد السياسي والعسكري والاجتماعي اليمني.

 

ويكاد لا تخلو محافظة يمنية أو توجهات للقوى المحلية جنوباً أو شمالاً من حضور وتوجيه التدخلات الإقليمية، بل يتجاوز ذلك بفرض المصالح الخارجية وفرضها أو تقديمها على المصالح اليمنية، ولتوضيح ذلك يحتم علينا الإشارة بشكل موجز لتفاصيل هامة ساقت اليمن الى الفوضى والسقوط والإنهيار التام، دون أي مبالغة أو تهويل.

 

عند اندلاع أحداث موجات الربيع العربي في بدايات العام 2011 ، أخذت اليمن نصيبها من تلك الاحتجاجات التي دفعت كل خصوم السلطة لتصفية حساباتها معها وعقد تحالفات يحكمها الهدف بإسقاط النظام الذي قاده وأداره الرئيس الاسبق علي عبدالله صالح على مدى 33 عاما (1978-2011).

 

لم تضع كل تلك القوى والأحزاب اليمنية من أقصى اليمين الى أقصى اليسار أي اعتبار لكثير من القواسم المشتركة بينها، والتي يمكن البناء عليها بإتجاه الحفاظ على الدولة، وبات فكر الإنتقام هو الحافز لضرب الخصوم مهما كانت تداعيات ذلك على بقاء الدولة والحفاظ عليها.

 

وكانت المفاجأة بتوافقات الضد، من تيارات الإسلام السياسي المتطرفة وتيارات اليسار والقومية والوسط إن جاز لنا تسميته بذلك، وحصلت الكثير من الإنشقاقات داخل الأحزاب والقوى ذاتها، والتي فرضت مستوى ثاني من الخصومة والرغبة في الانتقام السياسي.

 

دفع ذلك بعض القوى المسلحة لإستغلال ضعف الدولة وضعف بسط سيطرتها على كثير من أطراف الجغرافيا اليمنية في المحافظات المختلفة الى سقوط عدة محافظات تحت سيطرة جماعات مسلحة ومتطرفة.

 

حيث سيطرة جماعة الحوثي بالكامل على محافظة صعدة شمالي اليمن وأجزاء من محافظات حجه وعمران والجوف عام 2011، وسيطرة عناصر من تنظيم القاعدة على أجزاء من محافظات أبين والبيضاء وشبوة وحضرموت خلال أعوام (2011-2014).

 

مثّل ذلك إرهاصات حقيقة لهشاشة قدرة الدولة على الصمود في مواجهة الأطماع الداخلية والفوضى والانقضاض على الدولة التي كانت قبيل 2011 تواجه الكثير من الصعوبات والمخاطر السياسية والعسكرية والاقتصادية.

 

وبالرغم من مسار التسويات السياسية خلال الفترة من (2011-2015) التي قطعت اشواطاً متقدمة من التقارب وإنتقال السلطة بإشراف مباشر من الأمم المتحدة ومبعوثها إلى اليمن، من خلال مبادرات وإتفاقات وقرارات أممية وبرامج زمنية ومقاربات سياسية أفضت الى انتقال السلطة من الرئيس علي عبدالله صالح الى نائبه عبدربه منصور هادي عام 2012، وتشكيل الحكومة وعقد مؤتمر الحوار الوطني (2013-2014) بمشاركة كافة القوى السياسية والاجتماعية والمجتمع المدني والشبابي والنسائي.

 

إلا أن أطرافاً سياسية كانت تدير مشهداً مختلفاً في كواليس ما كان شكلاً من الصورة البانورامية المحسنة للتسوية السياسية، فجماعة الحوثي كانت كل يوم تتقدم وتسيطر على مساحات جديدة من المحافظات في محيط العاصمة صنعاء، والرئيس الاسبق علي عبدالله صالح كان يعقد العديد من التحالفات مع القبائل في المناطق والجغرافية القريبة من العاصمة، مستغلاً علاقاته السياسية والاجتماعية السابقة وتأثيره على معظم مشائخ القبائل وقادة الجيش.

 

في الوقت الذي كانت قوى أخرى كحزب التجمع اليمني للإصلاح "الإخوان المسلمين" واخرين من اليسار والقوى المحسوبة على -ثورة الربيع العربي اليمنية- تجنى ثمار تقاسم السلطة والنفوذ، بينما كان حضور تنظيم القاعدة مترامي في مناطق عدة.

 

مع عدم إغفال النفوذ الجديد حينها للرئيس اليمني السابق عبدربه منصور هادي (2012-2022) الذي حاول استغلاله بتقارب القوى السياسية حوله باعتباره المنقذ تارة، وتأمرهم ضده تارة اخرى.

 

كل ذلك شكّل مشهداً مخيفاً للفوضى، سيما وأن التدخلات الاقليمية كانت فجه، ولم تراعي أي معايير للقوانين والمواثيق الدولية، وأبرز تلك التدخلات كان تهريب الاسلحة والذخيرة والصواريخ لجماعة الحوثي من قبل ايران كبير ولم يتوقف، حيث كانت قوات خفر السواحل اليمنية والقوات الأمريكية والفرنسية المتواجدة في المياه الدولية تحاصر وتقبض على العديد من السفن المتوسطة والقوارب الصغيرة التي تعمل لصالح الحوثيين وإيران بمعدل شهري.

 

ثانياً: تقاسم النفوذ بين الجغرافيا والقبيلة والمذهب

 

كان لابد من التمهيد السابق، للوصول الى مرحلة إسقاط الدولة بيد جماعة الحوثي في سبتمبر من العام 2014، بسيطرتهم على كافة مؤسسات الدولة اليمنية السيادية السياسية والعسكرية والامنية والاقتصادية خلال ساعات في مشهد يصعب تفسيره.

 

بيد أننا يمكن تقديم تفسيرات عديدة، إلا أن الباحث يرى أن أهمها يتمثل في أن المحافظات التي سيطرت عليها جماعة الحوثي خلال فترة قصيرة في محيط العاصمة صنعاء، تمثل إمتداداً مذهبياً وعقائدياً للجماعة، وترى فيه جزءً من تأثير قبلي وطائفي وثقافي واجتماعي وبشكل أقل سياسي، بأعتبارها مناطق يسيطر على أغلبها المذهب الزيدي القريب من الشيعة، وإن يرى البعض أن الفكر الاثنى عشري بات المسيطر على عقائديات جماعة الحوثي وقياداتها وتجاوز الاعتدال النسبي للزيدية التي تعايشت كثيراً بشكل فوقي مع الشافعية التي تمثل النظير المقابل المعتدل للمذهب في المحافظات اليمنية الاخرى.

 

وتبرز أهمية هذه النقطة ليس فقط من توافق الأبعاد الفكرية والدينية والإجتماعية لهذه المناطق مع الحوثي، بل يمتد ذلك باعتبار هذه الحاضنة، التي يطلق عليها بمسمى شعبي "الهضبة" وهي مناطق شمال الشمال الجغرافي، بأعتبارها مخزن بشري متطرف تتواجد فيه أعلى نسب الفقر وأقل نسب التعليم مما جعل التأثير عليها باعتقادات الخرافة وولاءات القبيلة أكبر من المناطق اليمنية الاخرى. وهذا يفسر بطبيعة الحال سرعة الإنهيار وإحتضان المجتمع لهذه الجماعة، على الأقل في بدايات الإجتياح.

 

يدفعنا ذلك للوصول الى مارس 2015، حين بدأت العمليات العسكرية للتحالف العربي لإعادة الشرعية في اليمن، والذي يمثل الفاصل الحقيقي لتقاسم الجغرافيا اليمنية وإنفصالها بشكل أفقي وعمودي.

 

وهنا يرى الكثير من المراقبين أن عمليات التحالف العربي قد تكون أخفقت في تفاصيل عديدة إلا أن قدرتها على إيقاف تقدم جماعة الحوثي للسيطرة على باقي المحافظات اليمنية يعد نصراً إستراتيجياً، لم يأخذ حقه من البحث والدراسة، باعتبار أن ذلك كان هدفاً لجماعة الحوثي كونها أصبحت تملك الترسانة العسكرية الكاملة للدولة اليمنية، وقد سعت بالفعل في مارس 2015 لضرب المحافظات الجنوبية بالطائرات الحربية.

 

بطبيعة الحال لا تسعى هذه المادة لتقديم أي تقييم عسكري للعمليات التي شهدتها اليمن خلال الأعوام الماضية، ولكن الضرورة تفرض ذكر بعض التفاصيل التي ترتبط بموضوع المقال.

 

ولهذا فقد فرضت المتغيرات المختلفة في المشهد السياسي والعسكري والاجتماعي اليمني خلال الثمانية سنوات الماضية تباينات مختلفة من التحالفات، أفرزت واقعاً مختلفاً على المستوى الجيوسياسي، وقسّم اليمن الى كيانات سياسية متداخلة، يتبادر للوهلة الأولى أنها ذات اتساق في الأهداف والرؤى، ولكن في الحقيقة أنها ذات توجهات متعارضة.

 

ومنذ العام 2015 إنتقلت العديد من الأطراف السياسية اليمنية الى طرفي التحالفات التي شكلتها الضرورة، وعوامل الجذب والاستيعاب والفرض.

 

بيد أن الإشارة الى واقع النفوذ وتقاسمه منذ إعادة تشكيل هيئة رئاسة الدولة اليمنية، بتفويض الرئيس السابق عبدربه منصور هادي في أبريل 2022، مجلس القيادة الرئاسي بإدارة شؤون الدولة برئاسة الرئيس رشاد العليمي وعضوية سبعة أعضاء يمثلون "فسيفساء" شاذة من التنوع السياسي والاجتماعي والجغرافي لا يجتمعون بسهولة، وذلك ما سبب تعارضهم بعد فترة ليست بالطويلة.

 

ثالثاً: قوى الشرعية تقاطع المصالح واختلاف الأهداف

 

ففي الوقت الذي لا يختلف عليه أحد بأن جماعة الحوثي قد أفقدت شكل الدولة أي تأثير وحضور في مناطق سيطرتها، وإمتداد ذلك على كل الجغرافيا اليمنية، مازال اليمنيين يتعلقون بالشرعية المعترف بها دوليا، بالرغم من عدم قدرتها على تحقيق الكثير من رغباتهم وتلبية إحتياجاتهم، باعتبارها وريث الدولة التي يمكن البناء عليه لإعادة هيبة وحضور الدولة.

 

في هذا الصدد يمكن قراءة واقع تطورات الصراع الداخلي وما فرضته من توازنات القوى، وسيكون بداية الحديث عن جناح الشرعية اليمنية، حيث التباين غير القابل للتحليل النظري لإثبات نفوذ طرف دون آخر أو أكبر من الآخر، سيما في محافظات التماس بين قوات الحكومة الشرعية وجماعة الحوثي، أو بين قوي الشرعية المسلحة والمختلفة فيما بينها.

 

ونشير هنا إلى ان الحكومة الشرعية اليمنية والتي تتخذ من محافظة عدن عاصمة مؤقتة و"متنقلة" لها تبسط نفوذها وحضورها الرمزي على ثلثي مساحة اليمن، بحساب المحافظات واسعة المساحات الجغرافية والمترامية الأطراف والضامه لمناطق كبيرة من الصحاري والمناطق غير المأهولة. والتي تمثل جغرافيا محافظات وسط وغرب وجنوب اليمن، وهي المحافظات الغنية بالبترول مثل حضرموت وشبوه بالإضافة إلى المهرة المحافظة الحدودية مع سلطنة عمان. ومحافظتي لحج وأبين.

 

في حين تتواجد الحكومة الشرعية في محافظات أخرى تدار بمناطق التماس، حيث تسيطر وتتقاسم السيطرة عليها مع جماعة الحوثي وهي محافظات الحديدة ومأرب وتعز والضالع والبيضاء والجوف. بتناسب متفاوت من محافظة لأخرى.

 

وهذا التقدير بقدر ما فيه من حقيقة، الا انه يمثل تقاسم نفوذ فعلي لمناطق الشرعية لصالح قوى منضوية تحت مظلتها، تفقد فيه الدولة المركزية أي تأثير أو حضور في تلك المناطق.

 

ففي محافظة الحديدة -شرقي اليمن- التي تضم الميناء الأهم والاستراتيجي على البحر الأحمر يتقاسمهما طرفين، يتمثل الأول في قوات حراس الجمهورية التي يشرف عليها ويقودها ابن شقيق الرئيس الاسبق علي عبد الله صالح، العميد طارق صالح، وهي قوات تعمل بشكل نظري تحت منظومة الحكومة الشرعية، وتدعمها الامارات، ولكنها لا تنتمي لتشكيلات هيكلية تابعة لوزارة الدفاع أو الداخلية، رغم مساعي عمليات الضم والدمج. ويشغل قائدها منصب نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي. 

 

ويتركز تواجدها في عدد من مديريات محافظة الحديدة الساحلية، وبشكل أكبر وأكثر تأثيراً فهي تتواجد في مدينة وميناء المخاء وهي مساحة وجيب جغرافي هام وإستراتيجي يطل على شريط ساحلي مؤثر على البحر الأحمر، وتشكل هذه القوات جبهة حقيقة في مواجهة الحوثي.

 

بينما يمثل الطرف الثاني مجاميع مسلحة تابعة لجماعة الحوثي تسيطر على الأجزاء الاستراتيجية لمدينة الحديدة، والمتمثلة بوسط المدينة والمطار الدولي والميناء وطول الشريط الساحلي الذي يوفر لها مجالاً للسيطرة على المياه الإقليمية وتهريب السلاح والمعدات العسكرية القادمة من ايران وتهديد الملاحة الدولية والأمن القومي للبحر الأحمر، كما انه يدر دخلاً وميزانية كبيرة لا يقاسم الجماعة فيها احد، وذلك بسبب اتفاقات الهدن الاخيرة.

 

وينطبق ذات شكل تباين النفوذ على الأرض أيضاً على محافظات تعز ومأرب والجوف والضالع، وتتقاسمهم قوات تابعة للحكومة الشرعية اليمنية، بتشكيلات مختلفة إما تابعة الى وزارة الدفاع، أو قوات حراس الجمهورية أو المجلس الانتقالي الجنوبي او قوات العمالقة أو قوات أخرى تنتسب ايدلوجيا لحزب التجمع اليمني للإصلاح التي تتواجد بشكل تنفيذي ومؤثر في تعز ومأرب وسيئون في وادي حضرموت .. وبالضرورة تتشارك وتقاطع معهم في النفوذ والسيطرة والحضور في ذات هذه المحافظات المجاميع التابعة لجماعة الحوثي، وهي مناطق تماس ومواجهات دائمة بين الكر والفر.

 

ومع الاشارة الى المناطق التي يتقاسم السيطرة عليها قوات تابعة للحكومة الشرعية وجماعة الحوثي فان أبرز تلك المناطق هي محافظة تعز الأكثر كثافة سكانية، حيث تفرض جماعة الحوثي حصاراً على المدينة، وتقطع فيها الطرقات الرئيسية وتسبب ذلك في أوضاع إنسانية حرجة وغاية في الصعوبة. 

 

رابعاً: موقع الجنوب اليمني من المعادلة

في إطار تقديم تحليل واقع النفوذ واعتبارات الحضور على الأرض لابد من الاشارة الى مناطق الجنوب والشرق الجغرافي من اليمن، فيما كان يعرف قبيل الوحدة اليمنية 1990 "اليمن الجنوبي"، وهي عملياً المحافظات الأكثر مدنية وتقاليد في التجارة والسياسة، وتضم الثروات النفطية في باطن الأرض، لذا فهي محل أطماع ورغبات للسيطرة عليها وإدارتها من كافة الأطراف خصوصاً القوى السياسية والقبلية في الشمال.

ويمكن الحديث هنا عن المجلس الانتقالي الجنوبي، المدعوم من الإمارات، والذي يرأسه عيدروس الزبيدي والذي يشغل في ذات الوقت أحد نواب رئيس مجلس القيادة الرئاسي. ويملك المجلس الجنوبي قوات عسكرية وأمنية تتواجد وتدير بشكل فعلي مدن عدن وأبين والضالع ولحج، في حين أن تواجدها محدود في محافظات الشرق حضرموت وشبوة والمهرة.

ولدى المجلس الجنوبي مجلس قيادة وجمعية وطنية تدير شؤونه وتطمح ساعية بإتجاه فك الارتباط مع المناطق الشمالية وإعلان إعادة الدولة الجنوبية، بيد أن الصورة ليست بهذه الجودة من حيث واقع تأثير هذا المجلس على الأرض، فلربما أنه الأكثر حضوراً ودعماً وتنظيماً، ولكن قبوله محدود في محافظات جنوبية عدة، وهذا ما دفع بعض الأطراف بدعم من السعودية لتشكيل مجالس رديفه في مناطق أخرى، مثل مجلس حضرموت الوطني ومجلس شبوة الوطني وذلك لمواجهة أي حضور أو تأثير للمجلس الانتقالي الجنوبي. 

ويجد الشارع في المحافظات الجنوبية لليمن مشروع الانفصال عن الدولة الواحدة هدفاً يسعى له لمبررات يرى بعض المراقبين أنها ذات منطق، الا أن واقع الصراع الداخلي والإقليمي والدولي، قد لا يعطى مثل تلك المشاريع أي أولوية في الوقت الراهن.

ولهذا فان تواجد الحكومة اليمنية الشرعية في العاصمة المؤقتة عدن، تحت إشراف القوات التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، يضيف بعداً غير قابل للتفسير على قدرة الدولة والشرعية في فرض سيطرتها على الأرض في المناطق المحررة التابعة لها، وذلك يشكل ضغطاً وأطماعاً من قبل جماعة الحوثي التي تمثل التهديد الدائم في فتح جبهات مختلفة لتوسيع رقعة الصراع وحضورها وتواجدها الجغرافي. ويمثل ايضا تباين في جغرافيا التأثير والحضور، فالحكومة تتواجد هنا، ولكنها غير ذات تأثير وسلطة وقرار.

خامساً: تحالفات الضعف والقوة

قادت جماعة الحوثي تحالفاتها بقوة وتطرف لم يبقي لها حلفاء حقيقيين محليين، ودفعها بشكل أو بآخر الى إقصاؤهم إما بالقتل أو الحبس أو الإبعاد، ودفع ذلك بعضهم للهروب الى المنافي والنزوح الداخلي أو الخارجي، فلم تكن الجماعة تقبل الرأي الآخر الذي يمكن أن يتعارض مع توجهاتها الثيوقراطية المتطرفة، وكانت حريصة على الإبقاء على تحالفاتها الخارجية مع مليشيات شبيه، مثل حزب الله اللبناني وفصائل شيعية عراقية وايرانية أكثر من حرصها على الحفاظ على تحالفات محلية.

وكان ذلك واضحاً وجلياً في تواجد عشرات الخبراء العسكريين والفنيين من لبنان وإيران والعراق في صنعاء لتقديم الدعم الفني والعسكري واللوجستي لجماعة الحوثي في المجالات العسكرية.

 

مكنها ذلك من الحفاظ على المساحات الجغرافية التي سيطرت عليها منذ العام 2015، في دائرة جغرافية تمثل ثلث مساحة اليمن، في حين أنها تمثل ثلثي الكثافة السكانية، في تقديرات غير رسمية بأن عدد اليمنيين في المحافظات التي يسيطر عليها جماعة الحوثي يقارب ال16 مليون نسمة.

 

ومن أجل توضيح ذلك بشكل أدق فالجمهورية اليمنية تشمل 21 محافظة، تخضع (9) محافظات لسيطرة كاملة لجماعة الحوثي وهي أمانة العاصمة ومحافظات صنعاء وصعدة وعمران وريمه وإب والمحويت وذمار وحجه، في حين تتشارك الجماعة السيطرة على محافظات اخرى مع قوات تابعة للشرعية اليمنية، كما ذكرنا ذلك سابقاً.

 

وهذه المناطق تخضع لنظام سيطرة وأحكام صارم من قبل جماعة الحوثي، حيث يصفه المراقبون بأنه "نظام ديكتاتوري مستبد" يجني الجبايات والزكاة والجمارك والضرائب وماعرف بأنه الخمس (5٪) مما يملكه اليمنيين لصالح الجماعة وأتباعها وقياداتها ومن ينتسب لها. دون أي إلتزام أخلاقي أو إنساني أو سياسي تجاه المواطنين في مناطق سيطرتهم.

 

فهم لا يدفعون الرواتب ولا يوفرون الخدمات ولا يقدمون أي شكل من أشكال التزامات الدولة التعليمية والطبية والخدمية. كما تخضع كافة المنظمات الاغاثية والانسانية العربية والدولية في مناطق سيطرتهم لإشراف مباشرة من قيادات الجماعة، يفرض على تلك المنظمات توزيع الإعانات والمساعدات وفق هوى الكشوفات التي توفرها الجماعة بناء على الموالين لها. 

 

مما يدفع الكثيرين من مشرفي الجماعة الى بيع تلك المساعدات في السوق السوداء وعدم وصولها لمحتاجيها، حيث تفيد تقارير منظمات الأمم المتحدة "بأن قيود التنقل لا تزال تمثل تحدياً رئيسياً أمام وصول المساعدات الإنسانية في اليمن، بالاضافة الى ضعف التمويل والصعوبات التي تفرضها جماعة الحوثي في تحديد المناطق التي توزع فيها المساعدات والحد من حركة المنظمات. والاعتداء على العاملين فيها.

 

سادساً: التأثيرات المجتمعية وهويات متفرقة:

عبثت الحرب في اليمن بكل تماسك النسيج الاجتماعي، وأفقدته الكثير من ترابطه وعمقه، بل وعملت على تمزيق أواصره وتمايز أفكاره التي تجاوزت الكثير من الأعراف والقيم التي تعايش معها اليمنيين لعقود طويلة. ويمكن الإشارة إلى بعدين رئيسيين في هذا الصدد:

الأول: التوجهات السياسية: عملت جماعة الحوثي منذ اليوم الأول لسيطرتها على مفاصل الدولة في اليمن على مكافأة أنصارها وقيادتها وأتباعها باعتبارهم جديرين بالجائزة التي لم تراعي حقوق الدولة أو حقوق المواطنين، فبعيدة سيطرة الحوثي على كافة مؤسسات الدولة عملت على تعيين مشرفين من طرفها لإدارة شؤون الوزارات والمؤسسات واستغنت عن معظم كادر الدولة، وبذلك خلفت فوارق عمدت على التمييز بين اليمنيين ودرجات مواطنتهم.

في المقابل ترى أطراف ان التفرقة المناطقية في مناطق الحكومة الشرعية قد لعبت دوراً في التمييز بين المواطنين في فترات زمنية مختلفة، حيث كان لا يسمح لأبناء المحافظات الشمالية من الدخول للمحافظات الجنوبية، والتضييق عليهم في العمل أو التنقل. ومثل ذلك تحدياً للشرعية في تحقيق المساواة بين ابناء البلد الواحد.

الثاني: التوجهات الدينية: لم تعرف اليمن منذ عقود طويلة التفريق القائم على أساس المذهب والدين، وتلاشت الكثير من الفروقات، ومع حضور الحوثي أذكى كل تلك النعرات، وبات المقربين من مذهب الجماعة والمناطق التي ينحدر منها الحوثي، أصحاب الحضور والحظوة والتأثير، وبات باقي أبناء اليمن في درجات بعيدة عن المناصب أو التعيين أو حتى المساعدة.

أثر كل ذلك على شكل وبناء التركيبة الاجتماعية للمجتمع، ودفع الكثيرين من اليمنيين في مناطق سيطرة الحوثي للتوافق معه على غير قناعة والخضوع له، وذلك للحصول على ما يسد حاجتهم ويلبي احتياجاتهم، وساهم بالضرورة أيضاً في نزوح وهجرة مئات الالاف الى محافظات لا يصل الحوثي لها.

وقد عملت قيادات الحوثي بشكل منهجي على إعادة تشكيل البناء الديموغرافي للعاصمة صنعاء والمناطق التي تحت سيطرتهم، وإنتقال أنصارهم الى العديد من المناطق التي أُبعد قسراً المختلفين معهم في المذهب والسياسة والأفكار. وقاموا بشراء البيوت والاستيلاء على المنازل والمقرات، حيث باتت مساحات كاملة في العاصمة حصراً على أنصار الجماعة والمنتمين لهم، باعتبار أنهم الوحيدين الذين باتوا يملكون السلطة والمال.

تمثل هذه التفاصيل أهمية بالغة في إعادة تأطير المجتمع اليمني بناء على اعتبارات العائلة والسلالة والعرق والمناطقية، وتسبب ذلك في تعميق ما يمكن وصفه بتجاوز الطبقية الى تقسيم المجتمع اليمني إلى مستويين للمواطنة والانسانية، مستوى يحظى بكل شيء، وهم قلة، وآخر لا يصله شيء.

لم تكتفي الجماعة بذلك، بل عملت على تغيير المناهج الدراسة بإتجاه فكر ديني وسياسي واحد تجاوز كل الاعتدال الذي عاشته اليمن واليمنيين لفترات طويلة.

أما في مناطق الحكومة الشرعية فالأوضاع ليست نموذجية، ولكنها راعت الكثير من أبعاد تقدير المعاناة الانسانية للمواطنين، إما في إطار ما تقدمه الدولة من خدمات محدودة، أو عبر منظمات المجتمع المدني، حيث تعمل المنظمات في أجواء أكثر مرونة وصحية من مناطق جماعة الحوثي، وبالرغم من هذا فإن ما تقدمة الحكومة وقيادات المجتمع المحلي والمنظمات المدنية لا يلبي الحاجة الكبير والدائمة لاحتياجات الناس. وهذا ما يفسره المواطنين في تلك المناطق بأنه فشل في أعمال الحكومة وفساد مستشري يستغل الحال التي وصلت لها البلاد.

وهنا قد يسال المهتم بالشأن اليمني كيف يقوم اليمنيين بتسيير حياتهم، في المقام الاول تقوم عشرات منظمات المجتمع المدني المحلية والاقليمية والدولية بتمويل خارجي بمحاولات تقديم المساعدات الانسانية والتخفيف من المعاناة. ورغم كل الصعوبات التي تواجهها إلا أنها تؤدي دوراً يحتاج الى تكثيف وتركيز وإدارة، كما أن تحويلات المغتربين اليمنيين في دول الخليج وأوروبا وأمريكا تلعب الدور الرئيسي، ويكاد يكون السبب الجوهري في تمكين اليمنيين من استمرارهم في الحياة.

وهنا لا يمكن إغفال دور الرعاية المجتمعية في إطار التكافل الأسري والتراحم، فقد أصبحت الاسرة اليمنية تعتمد وتراعي شؤونها بذاتها دون الحاجة للدولة، بل ان الدولة باتت تمثل عبء عليهم، فقد عاد اليمنيين الى قواعد الاتفاق العرفي وتقاليد الحكم القبلي وأعرافه، وبات لكبير العائلة الكثير من التأثير والحضور، قدر ما تمكنه الظروف من ذلك، وعملت الأسر بقدر ما تستطيع على تدبير معيشتها، فالبيوت أصبحت تعمل كمخابز ومطابخ ومشاغل وكل تلك محاولات تدر اليسير من الدخل للأسر.

وتشير كل التقارير الدولية إلى أن اليمن يعاني من تدني مستويات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وضعف القدرات الإنمائية، والتفاوت في الدخل، ونقص الموارد المالية المحلية.

ويعد اليمن أحد البلدان الأقل نمواً في العالم من حيث انخفاض القدرة على الإدارة الاقتصادية، والعجز الخارجي، وارتفاع أعباء الديون، والاعتماد الشديد على التمويل الخارجي.

وتشير تقارير الأمم المتحدة في هذا الصدد الى إن أكثر من 18 مليون يمني بحاجة إلى هذه المساعدات وإن حوالي 12.4 مليون شخص يفتقرون إلى الوصول الكافي إلى مياه الشرب الآمنة في حين لا يزال أكثر من 4.5 مليون طفل خارج المدرسة ويفتقدون الفرص التعليمية. 

فرضت الحيثيات السابقة دوراً متقدماً وحاجة متزايدة إلى الخدمات التي تقدمها منظمات المجتمع المدني والاتجاه نحو تنفيذ المشاريع ذات البعد الانساني والاغاثي على نطاق شامل لكل المحافظات اليمنية، وهو ما ساهم به التمويل الدولي المخصص للاستجابة الإنسانية وعمليات الإغاثة في تمكين المنظمات من تنفيذ المشاريع والأنشطة، التي في النهاية تلبي القدر اليسير من احتياجات اليمنيين.

وتظل أعمال منظمات المجتمع المدني في اليمن قاصرة ومقصرة، وهي أقرب الى الموسمية كونها تتأثر بالتمويل واستمراره وتوفيره، وبالسيطرة الأمنية والتوجيهات المحددة لأعمالها، وأخيراً الآلية التي تستخدمها في إدارة شؤونها والتي تتسم بالبيروقراطية وهدر الصرف في التفاصيل الادارية واللوجستية أكثر من تمويل وتوفير إحتياجات الناس.

في الأخير. تعكس الأزمة في اليمن تأثيراتها على أبعاد مختلفة من التدخلات الإقليمية في الشؤون الداخلية، مروراً بتقاطع وتعارض مصالح ومحددات القوى المحلية، ووصولاً للتهديدات الحاصلة في المحيط الجغرافي الاقليمي والدولي على أصعدة عدة تجاوزت في الحقيقة الأبعاد المحلية، خصوصا مع تداعيات العدوان على غزة ودخول جماعة الحوثي على خط الصراع والمواجهات لصالح ايرانية والتي أخرجت المصالح اليمنية والامن القومي العربي من كل الحسابات القابلة للتسوية والتهدئة.

حيث أدخلت مغامرة جماعة الحوثي الفارغة الجغرافيا اليمنية كهدف مشروع للقوى الدولية كونها باتت مصدراً لتهديد الملاحة والممرات المائية الدولية، وذلك بالضرورة يفضي الى التخلي عن أي إلتزامات للحوثيين داخلية وإقليمية باتجاه مساعي السلام أو رعاية مصالح اليمنيين الذين تجاوزت الازمات حدود طاقاتهم.

الهاشتاج
رابط الفيس بوك

حميع الحقوق محفوظة ل مركز المستقبل اليمني للدراسات الاستراتيجية ---- برمجة وتصميم ALRAJIHI