* د. فارس البيل
رئيس المركز
تتجه التحركات المستمرة في الآونة الأخيرة إلى قرب الإعلان عن خارطة طريق للسلام في اليمن، تتضمن مراحل مختلفة، بالبناء على مبادرة سعودية سابقة، ولعل ما تتضمنه المراحل؛ بالأخص المرحلة الأولى هي في أساسها عوامل بناء الثقة التي يراد منها التخفيف من معاناة الناس، وإثبات حسن النوايا للانتقال لمرحلة التفاوض، وجرى تداولها أكثر من مرة عبر هدن أو اتفاقات، لكنها لم تكن تجد طريقاً للتطبيق.
منذ تشكيله في إبريل ٢٠٢٢م أعلن مجلس القيادة أنه سيذهب إلى استعادة الدولة بالسلم أو الحرب، وبدى خيار السلام هو المهمة الأقرب للمجلس، ومنذ ذلك الحين جرت متغيرات وتداولات عديدة داخلياً وخارجياً أفضت إلى هذه المرحلة من التفاهمات والمقاربات.
الآن تبدو الشرعية ممثلة بمجلس القيادة الرئاسي في الموقف الأصعب، إذ عليها أن تتعاطى مع الجهود الدولية ورغبات أطراف كثيرة في إنهاء الحرب في اليمن، وإعلان السلام، مع تقديم كثير من التنازلات، ثم يُخشى أنه بمجرد وضع العجلة في طريق السلام لا معنى لما يرافق ذلك أو يتبعه من مخاطر أو ما ستؤول إليه الأمور، بالأخص وتجارب الاتفاقات مع الحوثي مريرة ولا تبعث على التفاؤل، كما أن تكوين الجماعة الحوثية وفكرها وهدفها يتعارض مع الشراكة والمشروع الوطني واتساق الدولة وسيادة النظام والقانون ومبدأ الديمقراطية.
من هنا تبدو المخاطرة بالاتجاه نحو إعلان سلام مقتضب قد لايكون شاملاً ومحققاً استعادة الدولة؛ محفوفة بكثير من الغموض، إذ لا رؤية واضحة عمّا بعد السلام، وكيف سيكون مستقبل الدولة وصيغتها، وكأنه متروك لعوامل القوة والمكتسبات لدى الأطراف اليمنية.
باتجاه ذلك؛ تبدو لنا سيناريوهات عديدة:
أولاها :
إذا ما ذهبت الأمور في اتجاه التطبيق الحرفي والكامل للخارطة -رغم صعوبة ذلك- فإن على الشرعية أن تضع خططاً استراتيجية لهذا الانتقالة، عن كيف سيتم إحياء الدولة المؤسسية، وكيف ستؤمّن عودتها الشاملة بمفهومها السيادي الكامل ونفوذها وحضورها وهيبتها، في ظل تكتيك الحوثي ونزعاته، وعدم جاهزيته للولوج في إطار وطني مؤسسي.
السيناريو الثاني:
في حال نكوص الحوثي جزئياً عن الاتفاق؛ وعرقلة عدد من الإلتزامات والنقاط وعدم تنفيذها، كيف ستتعامل الشرعية مع الأمر وتلك الخُلل، هل ستقفز على الحفر أم تردمها، ما الذي لايمكن السير إلابه، وما الذي يمكن تجاوزه، وما تأثيرات ذلك على الاتفاق كلية؟ وهل يكتفي بما يتوفر ؟ وتتجاوز تحت الضغط الدولي؟ أم من الأفضل ألا تذهب إلا بكل السلام أو تركه، وما البدائل التي تعدها لكل حالة من ذلك، وما أوراق الضغط التي تملكها؟
السيناريو الثالث:
النكوص الكامل عن هذا المسار السياسي وجموده، والرجوع لنقطة اللاعودة، ومن ثم فلا خيار لاستعادة الدولة عن طريقه، فما حلول الشرعية حينها؟ في ظل مسئوليتها الدستورية لتثبيت الأمن في كل تراب الوطن وتحقيق الحياة الكريمة للمواطنين، وإزاحة كل المخاطر التي تنتقص من الأرض أو العرض أو وجود الدولة، بعد استنفاد خياراتها السياسية والدبلوماسية، وبعد أن بلغ صبر اليمنيين مدى لا يمكن معه الصبر، وبدت اليمن على حافة الانهيار.
مع كل ذلك؛ يضع اليمنيون آمالهم على الشرعية في ألا تفرط بمكتسباتهم الوطنية، وألا تذهب بعيداً في التنازلات التي ربما سيفقدون بها ملامح الدولة ونظامها المؤسسي ونهجها الديمقراطي، كما يريدون من الشرعية ألا تورطهم في اتفاقات منقوصة، تثير أو تؤسس لبؤر صراعات مستقبلية. ما يريده اليمنيون أن تعود دولتهم كاملة، بسيادتها ورمزيتها وإطارها الوطني ومؤسساتها المختلفة وطريقتها في خدمة الناس ومكانتها في المنطقة. قد يبدو هذا الأمر عسيراً، لكن اليمنيين تحت ضغط المعاناة وانهيار الدولة لا يطالبون الآن بأكثر من النجاة، لكنهم مع الزمن سيتنبهون للمآزق والنواقص، وسيحفظون المواقف جيداً وسيكون لها أثر في مستقبلهم.
فما الذي بإمكان الشرعية أن تفعله الآن:
يستوجب على الشرعية ألا تقدم على هذا الأمر إلا وهي مسلحة بممكنات تحملها لتحقيق السلام، وتدفعها لتحقيق الغاية المرجوة منه، عودة الدولة وإطفاء كل بؤر الصراع وضمانة استدامة الاستقرار، وإعادة التنمية بعد سنين من الدمار الهائل على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والوعي والهوية والتزام الدولة.. وهنا ينبغي للشرعية أن تذهب إلى كل ذلك محصنة بالآتي:
* توحيد صفوفها المختلة على مستوى الهدف والخطاب على الأقل، وترتيب بيتها السياسي والاقتصادي وموقفها الدبلوماسي وبدائلها المتاحة استعداداً للمرحلة المقبلة ومتطلباتها العديدة، وأن تحرص على ان تذهب إلى كل ذلك محصنة بتوافق سياسي.
*وضع المعاناة الإنسانية كأولوية لدى الشرعية، لكن على أن لا تؤدي هذه التنازلات إلى فتح خانة جديدة لمعاناة أجد، ومساحة لجماعة الحوثي للضغط من جهات أخرى.
* الأجدى عدم التفريط بالثوابت الوطنية، أما الصيغ السياسية لطبيعة شكل الدولة المستقبلي، فهو أمر خاضع لمصالح الشعب، وفقاً لمتغيرات الوضع والسياسة، ويجب أن تقيسه الشرعية وفقاً لنبض الناس الغالب، لا وفقاً لتوازنات اللعبة السياسية أو رغبات الساسة، ولعل أكثر ما أربك الحلول الشاملة في اليمن طوال الفترات الماضية أن الحلول كانت تصاغ بناء على توازنات وإرضاءات الأطراف السياسية والقوى المختلفة ومكامن النفوذ، لا على مصلحة عموم الشعب وتصورات الدولة الشاملة، إذ دائماً ما يتضرر الشعب، لكن الحلول توضع لأجل مصلحة الساسة.
*أن تضع الشرعية نصب عينيها أن هذه أخطر مرحلة في تاريخ اليمن المعاصر، ومن ثم فلابد أن تسعى لأن تؤسس هذه المرحلة لاستقرار وتطور اليمن ونهضة شعبه المسحوق، وتعويضه عن سنين الحرب، وتنظر باستراتيجية لمستقبل اليمن، وكيف يكون هذا السلام نافعاً لعموم الشعب وفقاً لهذه الأساسيات.
*يتوجب ألا تفرط الشرعية بالوثائق المرجعية والمسارات القانونية والدستورية في خطواتها، وتبقى مرجعاً مهماً بين يديها، ودليلاً للاستناد به في حالة الخلاف والتعثر، وحتى لا تفقد الدولة إطارها القانوني ورمزيتها، وتتحول إلى شكلانية التوافقات.
*يستوجب أن تذهب الشرعية في لقاءاتها مع الحلفاء والوسطاء برؤى ثابتة ومعمقة وتطلعات مسنودة بالرأي الشعبي لهذه الجهود، وأن تحرص الشرعية على أن تكون كل خطواتها مدروسة ومواقفها كذلك، وتتعامل بندية واضحة، من موقع المصلحة الوطنية الثابتة مع كل المبادرات والمحادثات.
*وضع تصورات بديلة في حالة التعثر الجزئي أو الكلي، واشتراط الضمانات القوية، واقتراح المرجعيات التي يمكن العودة إليها، مع حضور أطراف ضامنة وقادرة على فك الاشتباك في حالة العراقيل، وإعادة ما يند إلى المسار الصحيح بحزم.
* الضغط لأن يكون هناك ضمانات والتزامات واضحة لكل مرحلة، وأن يكون الانتقال من مرحلة لأخرى تبعاً لنجاح وتنفيذ سابقتها بشكل كامل، وفقاً لخطط ومدد زمنية ومرحلية واضحة وصارمة، فالتساهل مع أي خلل سيقود إلى التفريط في مجمل الاتفاقات لاحقاً.
*توسيع دائرة الاستشارة وأخذ الرأي القانوني والسياسي والمجتمعي قبل الإقدام على خطوات كبيرة، ومراجعة كل خطوة أولاً بأول.
*وضع اعتبار أن المرحلة القادمة مرحلة شراكة بما تكتنفه من تداخلات وتعقيدات مختلفة، ولليمن تجربة سياسية معروفة في الشراكات الحكومية، وتقاسم السلطة وخلافاتها التي كانت كثيراً ما تفضي إلى صراعات أو اندلاع حرب، وبالتالي؛ لابد من قواعد صارمة وواضحة مسنودة بالدستور والاتفاقات لطرائق الشراكة، حتى لا تصبح معضلة اليمن القادمة بعد الحرب هي نزاعات الشركاء في الحكومات.
* الحرص على ألاّ يذهب طرف بالقوة المعطلة عسكريةً أو سياسية، أو الاستقواء بعوامل داخلية أو خارجية، حتى لا يكون أياً من ذلك عائقاً أمام الاستقرار القادم وترسيخ الدولة.
* على الشرعية أن تضع وتُلزم الوسطاء بإجابات واضحة لكيفية نزع السلاح من كل الأطراف وتحييده ما عدا جيش الدولة الوطني، ونزع النفوذ الجغرافي والمالي والوظيفي والتأثيري الذي يمكن أن يعيق الهدف الأسمى للسلام والدولة القوية التي تخدم عموم الناس، وألا تكون مستقطبة بيد طرف أو قوة.
* لابد من إجابات محددة حول وحدة الجيش واحتكار القوة والقرار، وإنهاء التشكيلات العسكرية التي تضر بقرار الدولة وسيادتها.
* ما ضمانات المشهد السياسي والعودة للانتخابات والديمقراطية، وكيف ستنخرط كل القوى في عملية تنافسية شريفة ونزيهة في إطار وطني ومرجعية يمنية خالصة.
* يبدو ألا حل في اليمن يضمن حضور الدولة وخدمة مواطنيها بالعدل والمساواة، إلا بالوصول إلى دولة مدنية متقدمة يحكمها الدستور والقانون، وتمنع سيطرة الأيديولوجيا والأفكار الأحادية والسلطوية والجماعات الشمولية على الحكم.
*يتوجب أن يُصارح الرأي العام وتقدم له الردود والتفسيرات، واتخاذ الشفافية الملائمة لما يحدث، وإيراد التوضيحات المناسبة للمواقف والأحداث.
* ينبغي أن يطمئن الناس إلى تطبيق العدالة الانتقالية، وجبر الضرر، ووضع مسارات واضحة لذلك، وأن الجرائم لن تسقط بالتقادم، والحقوق والممتلكات المصادرة ستعود إلى أهلها، وستجري تعويضات للنفس والمال والممتلكات. وأن سبيل الاستقرار يمر عبر إعادة الحقوق وتسويتها.
* وضع تصورات ملائمة لصيغ السلطة القادمة، تشمل اللامركزية وتوزيع الثروة والسلطة، واجتراح الحلول المحققة لتطلعات الناس وفقاً لمصالحهم واحتياجاتهم ورغباتهم الكفيلة بالتعايش والمساواة والاستقرار، بما في ذلك حل القضية الجنوبية وغيرها من المظالم التي رافقت المعترك السياسي وشكلانية الدولة سابقاً، وفقاً لمصلحة الشعب ورغباته والمصالح العليا للجغرافيا الوطنية والدولة اليمنية وسيادتها، لا مصالح الأطراف والنفوذ .